لم أكن يوما من محبي ذكر القبائل ومآثرهم قديما وحديثا ،لكن أمرا جللا جعلني أكسر هذه القاعدة وهذا المبدأ بعد المكرمة التاريخية التي تقدمت بها قبيلة "لقلال" أبناء أبي بكر الصديق ،ثاني اثنين ،أفضل إنسان في هذه الامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كهدية للمجاهدين المرابطين في غزة.
والشيء بالشيء يذكر ،فهذه الفتاة التي سنورد قصتها هنا هي فرع من ذاك الاصل ولبؤة من ذاك الاسد.
تقول القصة وهي بعنوان :
،،من قصص المروءة والكرم،،
من القصص المتداولة في منطقتنا (منطقةِ أفَلَّ وما جاورها)، قصةُ المختار بنِ خطرَ (شِيخ اشيوخ) في عصره، مع فتاةٍ نَزَل ضيفا عليها . وقد رويتُها من الجَدّة مباشرة، وكانت رحمها الله من أصفياء المختار وآثَرِ بنات عمه عنده.
كان المختار مع رفاق له في سفر بضواحي مدينة تامشكط، فآواهم المبيت إلى حيٍ (أسَكْرَ)، وتعني بالعامية بقيةَ الحي عندما يَذهب رجالُه بنَعَمهم للانتجاع وتبقى نساؤه.
فعَرّسوا بجوارهم ولم ينزلوا على بيوتهم وأخفوا عنهم هويتهم، تحاشيا لِمؤونة الضيافة وحرجِها في مثل تلك الظروف القاسية والأزمنةِ العسيرة.
وبينما كان المختار يتهيأ لصلاة العشاء، شَبّت نار مُضيئة من أمام (الخيمة) التي تليهم، فلفَت ذلك انتباهَه، وخاصة أن المنطقة (آوْكارْ) معروفة بالتصَحّر وشُح الشجر والحطب، والنارُ يبدو من ضيائها وقوة اشتعالها أنها أُضرِمت بحطب أصيل. ومما زاد استغرابَ المختار أن رائحة دخان النار تُرشد إلى أن حطبَها من جنس شجر (إمِجيجْ) ذي الرائحة الذكية، والذي لا يَنبت في تلك المنطقة أبدا.
تعززت مخاوف المختار مما كان يُحاذره من أمر الضيافة، وأمَر أحد مرافقيه أن يستطلع له الخبر..
تقدم الرجل إلى المنزل وعندما اقترب منه إذا بفتاة جالسةٍ على ضوء النار، وقد ألقت عليها قِدرا كبيرة، وبجانبها جَفنة مملوءة باللحم تَأخذ منها إلى القدر، وإذا بوَقود النار فعلا هو حطب (إمِجيجْ)، ولكنه ليس الحطبَ العادي، إنها قوائمُ وأعوادُ (هودجٍ) فاخر، وهو ومجسّم خشَبي كبير على هيئة هرَم، يُصنع حَصْرا من قلب هذه الشجرة العزيزة الكريمة، تَضرب عليه الظعائنُ القبابَ وتتزين به وتَستظل بظله أثناء السير على ظهور الجمال، ويُعرف في اللغة العامية ب(لَخْطيرْ)،
ويُعد مَفخرةَ وأُبّهةَ نساء ذلك العصر. وكانت يد الفتاة لا تفتأ تُقلب أعواد الهودج المشتعلة، وتَتَعاهدُها بالتحريك والتقليب طلبا لاستعار النار وتهْيِيجها، استعجالا لنُضج الطعام.
وبقليل من التلَطّف والسؤالِ تكشفت لمبعوث المختار وقائعُ القصة العجيبة!!
أما المرأة فهي فتاة من قبيلة لقلال حديثةُ عهد بعرس، (مِنْ كيفْنْهَ عزْلتْ).. وأما اللحم فيعود لولد البقرة الوحيدة التي خَلّفها لها الزوج وذهب بباقي القطيع ينتجع له المرعى..
وأما الحطب فليس سوى أعواد هودجها الذي كان مما (جَهّزتْها) به أمُها، عَمدت إليه فنَقَضته وصَيّرته وَقودا لطعام ضيوفها عند ما عَزّ عليها - لضيق الوقت وطبيعةِ المنطقة - وجودُ الحطب العادي.
عاد الرسول وحَدّث بما رأى!! فحزِن المختار للأمر وطَرِب في نفس الوقت، ولكنه أسرّ ذلك في نفسه ولم يُبد لرفاقه شيئا.
وفي الصباح واصل الوفد المَسيرَ عائدا إلى أهله، وفور وصوله أمَر المختار بإحضار أحسن جمل في إبله، وشد عليه هودجا من أحسن ما يكون (هوادج الظعائن)، وساق مع الجمل قطيعين، قطيعا من بقر وآخر من غنم.. وأَشخَص بكل ذلك إلى الفتاة.
وكان رحمه الله يقول في مجلسه - وهو المعروف بالمروءة والكرم - إنه ما غَبط أحدا في السخاء غِبطتَه لتلك الفتاة، (ما كط قَيّرني ماهي ذي القَلّاوية)
القصة رواها الاديب د. الشيخ احمد ولد البان شفاه الله