المجتمع الذي وصفه الرحالة ذات يوم، وعلماء البلدان كل وصف، فمنهم من وصفه بالجشع، ومنهم من وصفه بالعوز الشديد ومنهم دون ذلك، وقد يكون لتلك الأوصاف حظ من الصدق، كما قد يكون لها حظ من الباطل، وأيا كانت الحظوظ ومهما أشربها الواصفون في قلوبهم، فهي ماض لا يعني في ذاته ولا لذاته، وإنما يعني اجترار الحاضر لبعض المكونات الذهنية العتيقة، وثيقة الصلة بالمكونات الاجتماعية العامة والخاصة على حد سواء!
لقد كان في قصصهم ما كان، وما كان لمجتمع البيظان ليعرف نظاما سياسيا محكما خاطفا إلا قبل ألف سنة من الآن في عهد الدولة المرابطية حينا من الدهر، ثم عرف إمارات متفرقة في العصر الوسيط عاشت بين السلم والحرب متقلبة بين هذا وذاك!، وكانت موضوعا للمجتمع و هو موضوع لها، وفي ذلك من تشكيل البنية ما فيه، يُضاف إلى تشكيل هذه البنى السياسية تشكيل ثقافي، تمثل في تعليم فقه العبادات والمعاملات واللغة منزويا في غالب الأمر من أن يكون طُعما سياسيا لتحقيق العدالة وتطبيقها .ولم يكن هذا الإنتاج على غزارته وذكاء أهله بقادر على أن يخلق صحوة سياسية تدعو إلى توكيد الكلمة ومركزية السلطة - إذا ما استُثنيت بعض المحاولات الإصلاحية السياسية لدفع بعض المخاطر، والتي يُعد أهلها على الأصابع عبر فترات مختلفة، وقد تم امتصاصها اجتماعيا وكانت كأن لم تكن - لكنه كان قادرا على موازنتها!
ولما جاء المستعمر الفرنسي ازداد الطينة بلة، والتفاوت الطبقي رسوخا، فأقصى ما يمكن أن يقدمه المستعمر هو الحفاظ على أكثر مصالحه بأقل خُسر ممكن!
إن المجتمع يعانى خلال عقود طويلة من مركب الفوضى، وما يستلزمه ذلك المركب من فعل سلوكي - لا يحفظ نفسه غالبا - وإذا حاصرته الظروف قدَّم المنفعة على المصلحة، وغير القانون على القانون، لقد اقتات على الظمأ السياسي المحكم والمنظم، إلى أخمص قدميه، ثم تمثل ذلك في جميع أوجه الحياة من الجزار إلى أصحاب القرار، - وليس قولنا ها هنا دعوة إلى اليأس وليس الغرض منه بالسياسي ولا إظهار الشماتة لا قدر الله - فممارساته الذهبية ولدَّت أنساقا بعيدة كل البعد عن القانون والنظام، والفائز فيها هو المتغلب بأي حيلة نَبُلت هذه الحيلة أم دحضت!
وإن هذه البنى الذهنية قد انعكست على واقع اللغة في أبعادها الوظيفية عامة وروابطها الاجتماعية خاصة، فغدت مركوزة باستبطان دائم ثاوية عميقة في عقول المجتمع وقلوبه، وإنك لتجدها في أسفل سلم الطبقات الاجتماعية بقدر ما تجدها في أعلى سلمه!
ولقد آن لنا أن نشرح بعض هذه المقومات الذهنية التي انعكست على تأسيس روابط المجتمع المعنوية أو المادية أو هما معا.
من أجل ذلك تجد سمات "الفوضى المركبة" في كثير من سلوك المجتمع ذات الارتباط الوثيق بالمجال السياسي والعملي، وإذا كان علماء الاجتماع يؤكدون أن إيثار النفس يُعد المحركُ الأول للسلوك سواء كان سلوكا حسنا ذاتيا أو غير ذاتي نافعا لغير ذات صاحبه، أو غير نافع، فالمحرك واحد وإن تعارضت نتائجه فإنه لتُلحظ الفوضى المركبة تتحقق في مجتمعنا من خلال الإفراط الشديد بالاستئثار بالنفس لدى كل فرد بسيرورة سلبية، يحكمُها غيرها ولا تحكم نفسها.
وُيلاحظ ذلك في جملة من المبادئ والسلوك نجملها في ما يلي:
- في الحياة العامة نلحظ تدافع الشباب في مختلف الأعمار إلى الهجرة دون مراعاة لأحوال الظروف، ودون مسوغات مقنعة تتطابق مع الوصف المنطقي لأسباب الهجرة وفق ميزان يُرجح كفة الربح على الخسارة،
- في الحياة السياسية: لا يبدو المشهد السياسي ثابتا في مبادئ معينة، ولا يرسم خطوات زمنية تستثمر الزمن ورقة للوصول إلى أهدافها، وإنما هو مبدأ انتهاز الفرص، مما يجعل المجتمع الذي أنتج البنى الذهنية في دائرة مغلقة على نفسها تستقبل نفس ما ترسله،
- في المجال الاجتماعي أيضا ثمة تجارب ميتالوجية غايتها تحقيق التفاوت الطبقي وتنمية مفاهيمه، وإعادة إنتاجه، وخلق أهلية تاريخية تُحوجزه، وتعيد الروابط والعلاقات الاجتماعية مثل ما يستبطنها العقل الباطني "اقرا الأساطير المرتبطة بنشأة مجتمع أو أشخاص بعينها مثلا"،
- في مجال التعليم: وهو الفعل المسؤول عن تنمية الوعي والادراك تلحظ تيمية هذه المسألة تتمثل في تجاوز المهمة الإدارية بين الآمر والمأمور إلى علاقات وروابط يحيا فيها من يحيا، ويهلك فيها من يهلك وتتمثل أيضا على مستوى التكوين في مخالفة المخرجات البشرية للمتطلبات العلمية، وفي غياب قانون كاشف للخرقات الصغيرة التي هي مقدمة لخرقات كبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر!
ينبغي للمجتمع في مثل هذا مراجعة الخطابات اللغوية، وضرورة فهم الذات لتحقيق قدر من العدالة السياسية والعلمية والاجتماعية، والخروج من عباءة البدو وغريزة حب الذات إلى رحابة العقل والوعي بالذات.
والله من وراء القصد.
بقلم : د. الشيخ سعد بوه الشيخ سيد احمد