34 – السر
كنا نصلي المغرب مع سيد احمد ولد الخطاط، وهو لمن لا يعرفه كان آية فى الورع، والعلم، والاستقامة، فالتفت إلينا وقال “الله الذي لا إله إلا هو، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير”، من قالها عشر مرات، بعد صلاة المغرب، لا يموت ليلته تلك. وإن قالها بعد صلاة الصبح، لا يموت ذلك النهار.
حديث شريف روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدة روايات، هذه إحداها. وذلك علم ظاهر، لا سر فيه.
وعندما كنت بصدد كتابة بحث عن الطرق الصوفية فى موريتانيا، قرأت كتابا عن الشيخ حماه الله باللغة الفرنسية، مأخوذا من رسالة دكتوراه، بدأت أسأل عن هذا الشيء الذي يقال له السر عند أهل التصوف.
وعندما زرت المغرب، وجدت كثيرا من الأماكن والأعلام تحمل أسماء أولياء قدامى : سيد حرازم، وسيد على بن حمدوش، وعبد السلام مشيش، وغيرهم كثير. “مياه سيد حرازم” المعدنية فى مدينة فاس فيها عذوبة خاصة، وسر منسوب إلى ذلك الولي الصالح. وعند اباه ولد عبد الله – صاحب كاريزما العلم والتواضع فى النباغية – شيء من ذلك السر القديم. وسمعت قصيدة رائعة بالشعر الحساني لجمال ولد الحسن، يصف فيها تلك البساطة، وذاك التواضع عند ولد اباه، يقول فيها إن “السر كتات“.
ولا تتفطنولو حتَّ، السر گتات .. والا تمرفگ وحك راصو لا تخرصوه
والى اسكت وگال كلمات ماهم ياسرات .. نعتولو عن ذاك الگال ما اسمعتوه
وسمعت أيضا، أن سر أهل العاقل هو الولاية و “زين لفَّام”.
وقرأت الكثير من أخبار أولئك الأولياء، فى كتاب الإبريز، عن عبد العزيز الدباغ. وقرأت كتابا آخر عن أبي الحسن الشاذلي.
لكنني بقيت على ظمئي، ولم أفهم معنى السر، خاصة من الناحية الشرعية.
حضَّرت جميع الأسئلة التي كانت لدي عن “السر” وتوجهت إلى الفقيه، فسألته عن السر، فقالي لي : “إفشْ .. إفشْ”. قلت له كيف ذلك، والناس جميعا يستخدمونه ويبحثون عنه ؟ قال لي : “أنا شيخي من أعرف الناس بالسر، وقال لي إنه إفش.”
عبارة إفش، تعني أنه لا يأتيك عند الظن.
كان جوابه – بالنسبة لي – شافيا، كافيا، مانعا، ولم أسأل أحدا بعد ذلك عن السر، لأنني فهمت أيضا أنه لا ينصحني، ولا ينصح غيري، بالانشغال بالجداول وعلم الأوفاق، لكنه لم يقلها صراحة. وأن السر عند أهل التصوف، لا يتعلق أبدا بالأمور الدنوية.
عندما قرأت قصة الهجوم على طائرة الملك الحسن الثاني، جاء فيها أن الملك قرأ شيئا من السر يجعله لا يموت ذلك اليوم، فتذكرت كلام سيد احمد ولد الخطاط، لعله شيء من ذلك القبيل، يتوارثه ملوك المغرب لحماية أنفسهم.
كانت نجاة الملك يومها معجزة حقيقية حيرت الجميع. كان أمر تلك الطائرة تحديا صارخا، لأعتى قلاع العلم والفلسفة : المبدأ القائل إن نفس الأسباب، تؤدي فى نفس الظروف، إلى نفس النتائج.
أهل الظاهر فى الشريعة لا يبحثون عن السر، ولا يسألون عنه، وأهل الباطن هم أهله، ولديهم فيه مدارس مختلفة؛ يبحثون عن تلك الحكمة التي جاء موسى عليه السلام، يطلبها عند السيد الخضر.
قال الشيخ ماء العينين لأتباعه عندما سألوه عن السر الذي يجعل الناس يتبعونه ويجلونه، قال لهم : “لا شيء إلا التقوى”، وبناء على ذلك يكون التقى هو السر عند الشيخ ماء العينين.
هنالك سر فى جوهرة الكمال وصلاة الفاتح عند أهل الطريقة التيجانية، والشاذليون عندهم حزب البحر، وجدول الدائرة.
ويكون السر وفق الشيخ محمد المامي، عند من خرج الإيمان من قلبه بالكلية، سحرا؛ وفي قلب من خرج الكفر من قلبه بالكلية، حكمة.
تلك الحكمة، وذلك الاعتبار الذين قال إبراهيم ولد باب ولد الشيخ سيدي، إن المرء يكسبهما بالتأمل فى صروف الدهر، حين زار النوارة بحثا عن السر.
“إن للدهر، إن تأملت صًرفا .. يكسب المرء، حكمة واعتبارا”
“ها أنا اليوم بالنوارة مقيم .. أي عهد بيني وبين النوار”
أما السر عندنا فى السياسة فهو فراسة كاريزمية، لا تستقيم الأمور إلا بها. والمذيعون من أهل “التنمية البشرية”، يملؤون شبكات التواصل الاجتماعي، بالكلام الفارغ حول الموضوع.
35 – الحرف
لدينا جيوش من المثقفين والكتاب العرب، يصدق فيهم قول الجابري عندما زار المدرسة الوطنية للأساتذة فى نواكشوط، مطلع الثمانينات، فى تعليقه على المتدخلين – قال : “إن تدخلات السادة، تذكرني بواقع مؤلم، هو أن المثقف العربي، لا يقرأ ولا يكتب.”
كان صادقا فى مقولته تلك، إلا أن الأديب الراحل جمال ولد الحسن كان من بين المتدخلين، وكان شعلة من المعرفة، قل نظيرها آنذاك فى أوساط الثقافة والفكر، ولا يصدق فيه قول الجابري، بشأن القراءة والكتابة.
نعم، لا يكتبون لأنهم لا يجدون من يقرأ، ولا يقرأون لأنهم لا يجدون ما يستحق – فى أعينهم – القراءة.
كتب ولد ابريد الليل رسالة الى ماكرون، يحاسبه بشأن الاستعمار و”اللغة الفرنسية فى موريتانيا”، يقول له فيها إن الساحرة الشريرة التي أتت إلينا باللغة الفرنسية، أفعى سامة لا تموت، ولن تموت قبل أن يقطع رأسها، ويدفن فى باطن الأرض، سبع مرات. والذي قاله ولد ابريد الليل بشأن اللغة الفرنسية صحيح، فهو صاحب أقوى كاريزما فى الكتابة، وعندما يكتب سطرا واحدا فى السياسة، يتقاتل عليه الناس، ولا يكتب إلا باللغة الفرنسية، رغم كونه من قادة الحركة البعثية الداعية للعروبة.
لا بد للكتابة فى موريتانيا، أن يكون فيها شيء من سر الحرف الفرنسي؛ شيء من لغة المستعمر، حتى تستحق القراءة فى أعين المثقفين العرب. ولا بد للسياسة، أن يكون فيها، للأليزيه نصيب.
حبيب ولد محفوظ كانت لديه كاريزما الكتابة، ولا يكتب أيضا إلا باللغة الفرنسية.
“القهر الحضاري” ترجمة لكتاب أحمد باب ولد أحمد مسكة “lettre aux élites du tiers monde”.
وكان من أقوى الناس كاريزما فى الكتابة، وفي السياسة منذ أيام النهضة، وأيام العمل الدبلوماسي فى نيو يورك، وكان مزعجا – بتلك الكاريزما – لجميع الأنظمة المتعاقبة فى موريتانيا.
36 – آلمودة
يتبع ان شاء الله...
يرجى الضغط هنـــــــــا للعودة للحلقات السابقة
نقلا عن ريم فييد