منذ أن بدأت التعليق على الإنتخابات الأمريكية قبل عامين ، يسألني كثيرون عن تنبؤاتي بهوية الفائز ، وكان جوابي دوما هو أنه يصعب التنبؤ بالفائز في انتخابات امريكا الرئاسية ، لأنه من الممكن أن يستجد حدث في أي لحظة قبيل الإنتخابات حتى بيوم واحد ثم تنقلب الموازين ، مثلما حدث في انتخابات ٢٠٠٤ بين الرئيس الجمهوري ، جورج بوش الإبن، والديمقراطي جون كيري.
فقد كانت معظم التوقعات تصب لصالح كيري بسبب تداعيات حرب العراق ، ثم قبل الإنتخابات بأيام معدودة ، بثّت قناة الجزيرة شريطا لأسامة بن لادن ، يهدد بأنه سيضرب امريكا مرة ثانية ، ولأن بوش يقود حكومة المحافظين الجدد الذين كانت أجنداتهم كلها تتمحور حول الحرب على الإرهاب ، فقد انقلبت الموازين وفاز بوش بفترة ثانية ، أما لماذا أنتجت القاعدة هذا الفيديو ، وكيف حصلت عليه قناة الجزيرة ، ولماذا تم بثه في ذلك التوقيت المحدد ، فهذه أسئلة أتركها لكم ولاستنتاجاتكم.
كتبت مرارا أن التنبؤ بهوية الفائز في هذه الإنتخابات تحديدا ، بين ترمب وبايدن ، أصعب من أي وقت مضى ، وذلك لأن المعطيات التي على ضوئها يتم التنبؤ لم تعد دقيقة ، بحكم الإنقسام الحاد والإصطفاف غير المسبوق والإنحياز الإعلامي وحتى المؤسساتي الحادّ وغير المسبوق ضد ترمب ، وحتى استطلاعات الرأي ، التي كانت معيارا مهما ودقيقا لم تعد كذلك منذ الإنتخابات الماضية ، ولعلكم شاهدتم ما حدث بعد مناظرة نائب الرئيس ، مايك بنس ، مع نائبة بايدن ، كاميلا هاريس ، اذ أظهرت استطلاعات الرأي في منصات الإعلام المختلفة تناقضا صارخا في النتائج متوائما مع توجهاتها الأيدولوجية ، ولا أظن معلقا موضوعيا محايدا سيعتمد على أي من المعطيات خلال هذه الإنتخابات ، أما المعلق الرغبوي المنحاز فسيعتمد على هذه المعطيات ولو من باب التضليل كما يحدث حاليا في معظم منصات الإعلام الأمريكية.
المشهد السياسي في امريكا غير مسبوق منذ أن فاز ترمب بالرئاسة ، وذلك لأنه أول مرشح من خارج دوائر واشنطن يفوز بالرئاسة ، فمنذ أن دشّن حملته الإنتخابية كان خارجا عن المألوف ، وثائرا على النظام المؤسساتي ، الذي يُسيّره الإعلام التقليدي وتوجهه لوبيات المصالح ، ولذا بدا ترمب غريبا متطفلا في حفلة لا يعرفه فيها أحد ، وكان فوزه ثورة حقيقية احتفت بها الشرائح المهمشة ، التي لا تكن ودّا لواشنطن وساستها ، وتصفهم بالفاسدين الذين يعملون لمصالحهم الخاصة بدلا من العمل لصالح الشعب ، ولم يختر الحزب الديمقراطي مرشحه جو بايدن عبثا ، رغم أنه في سنّ متقدم ويعاني من مشكلات جمة في التواصل والتركيز ، فبايدن يشبه واشنطن تماما ، أي يشبه نانسي بيلوسي ورفاقها ، الذين أمضوا سنوات طويلة جدا وهم يسيرون وفق أجندات محدّدة ، كما أن بايدن يشبه المؤسسة العتيدة ببيوقراطيتها التاريخية ، وكأن الديمقراطيين ووراءهم المؤسسة الرسمية يطرحون المرشح البديل للرئيس غير التقليدي، الذي شقّ الصف وخرج عن المألوف وأزعج الدولة العميقة.
ترمب أدرك أنه ضيف غير مرغوب فيه في واشنطن ، لا لأنه رئيس سئ ، بل لأنه مختلف وكسر القواعد التقليدية للمؤسسة الرسمية ، وربما أنه أيقن أن هناك مؤامرة لإزاحته ، ولديه كامل الحق في التفكير بذلك ، فمحاولات عزله لم تتوقف منذ دخوله إلى البيت الأبيض ، والحرب الشرسة عليه تاريخية وغير مسبوقة ، اذ حتى الرئيس نيكسون ، الذي ثبت تجسسه على الحزب المنافس وانتهى الأمر باستقالته لم يواجه معشار هذه الحرب ، وهذا ما يفسر اعتراضه على التصويت عبر البريد ، لأنه لا يثق بالبيوقراطيين الذين يفترض أنهم يعملون تحت إدارته ، أي أنه يظن أنه سيكون هناك أعمال غير قانونية تحرمه من أصوات مستحقة وربما تزوير ، ويؤكد هذا الظن أنه تهرب من الإجابة عندما سئل عن الإنتقال السلمي للسلطة ، ما يعني أنه يجهّز نفسه لاحتمالات هزيمة مُدبّرة ، وبالتالي ينوي الإعتراض على النتائج ونقل الأمر للمحاكم ، وأنتهي بالقول إن التنبؤ بهوية الفائز صعب ، فهناك حرب حقيقية وحشد واصطفاف وتضليل ، وإن فاز ترمب فستصبح معجزة حقيقية ، لأن هذا يعني أنه فاز على المؤسسة العريقة في واشنطن ومعظم لوبياتها وأذرعها الشرسة ، أي منصات الإعلام التقليدي ومعلقيها ومراكز الدراسات والبحوث التي تسير في فلكها ، كما يعني أنه سحق كل المؤامرات التي تجري ضده ، مثل اتهامه وحده بتبعات جائحة كورونا ، واتهامه بأنه هو سبب الفوضى والتخريب التي تدمر المدن الديمقراطية ، فهل سيفوز بايدن ، وتتنفس واشنطن الصعداء وتعود إلى روتينها وبيوقراطيتها ، أم ستحدث المعجزة مرة أخرى ويصعق ترمب امريكا والعالم؟!.
أحمد الفراج/ كاتب وأكاديمي سعودي