موريتانيا والحرب العالمية الأولى.. جانب غائب من تاريخنا العسكري

أربعاء, 04/09/2024 - 07:27

لا زلت أتذكر ضحوة ذلك اليوم الصائف من سنة 1977، وفي ظل دار أهل الْبُو ولد إفُكُّو إلى الشرق من مستوصف المذرذره، حين كنت أنا وبعض الحضور نستمع إلى الممرض سيدي نيانغ رحمه الله، وهو ممرض بولاري قضى حياته المهنية كلها حتى وفاته في المذرذره، وكان يتحدث بزهو عن ذكرياته في معركة "دان بيان فو" الرهيبة، التي وقعت في ربيع 1954.

 

لم نكن نعرف كثيرا عن تلك المعركة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا أن موريتانيين كانوا قد شاركوا جنودا وممرضين في هذه المعركة وقبلها شاركوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل كان همنا الاستماع إلى حديث سيدي نيانغ الشيق، وكيف كانت نجاته من ذلك التحدي حظا لا يتكرر؛ حين كان يسحب الجرحى من الميدان إلى الخطوط الخلفية في جو يحيط به الموت من كل مكان.

 

عرفت من خلال مقالة زميلنا محمد عبد الله ولد بزيد عن هذه المدينة أن سيدي نيانغ ينحدر من مدينة كيهيدي ومن حي "تولديه" بشكل خاص، حيث يعيش حتى الآن أبناء عمومته، "دياغراف" أي أمراء الفلان، الذين يشرفون على تسيير الأراضي الزراعية(1).

 

كان سيدي نيانغ رحمه الله، أحد الشباب الموريتانيين الكثيرين الذين أجبروا طوعا أو كرها على الانخراط في أسلاك الجيش الفرنسي، وكان هؤلاء الموريتانيون وغيرهم من الأفارقة يدفع بهم في غالب الأحيان دفعا إلى الخطوط الأمامية في تلك المعارك والحروب، وقد مات الكثير منهم في بقاع شتى كما سنرى، ونجا بعضهم، لكن أخبارهم ظلت شحيحة، فضلا عن أنهم لم يحظوا، على الأقل من جانب الدولة المستعمرة، بما يستحقون من تكريم.

 

في هذا المقال سأتناول مشاركة الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى، ما حجمها؟ ما طبيعتها؟ وما مصير من شارك من الموريتانيين في تلك الحرب الكونية الفاجعة؟ وكيف لم تقتصر تلك المشاركة على القتال تحت ألوان العلم الفرنسي، بل إن من بين الموريتانيين من شارك في تلك الحرب مع العثمانيين، وفيهم من قاتل الأتراك في المشرق إلى جانب أشراف الحجاز فيما يعرف بالثورة العربية التي قادها الملك الحسين بن علي وابناؤه عبد الله وفيصل وعلي.

 

أولا: موريتانيون في الجيش الفرنسي.. سياسة احتواء شباب المستعمرات

 

 

 

نشرت وزارة الجيوش الفرنسية على موقعها الرسمي في الشبكة قاعدة معلومات متنوعة وشاملة لجنود المستعمرات الفرنسية الذين ماتوا في الحربين العالمتين الأولى والثانية، وسنقتصر في هذا المقال على الجنود الموريتانيين الذين توفوا -رحمهم الله- في الحرب

الأولى(2).

 

هذه المعلومات التي شاركتها وزارة الجيوش الفرنسية تعرض للقارئ أخبار جميع الجنود الموريتانيين بواقع ملف شخصي لكل جندي، وفي كل ملف عشر خانات وهي: الاسم، ومكان الميلاد، وتاريخ الميلاد، ومكان التسجيل في الجيش، وتاريخ الالتحاق بالجيش، ورقم التسجيل، والرتبة العسكرية، وسنة الوفاة، ومكانها، وسببها، وفيلق الجندي.

 

وبعض هذه المعلومات مذكور دائما كالاسم والسلك وتاريخ ومكان الوفاة ورقم التسجيل، وبعضها مذكور غالبا كسنة الميلاد وسبب الوفاة، والباقي من المعلومات قد يذكر وقد لا يذكر. ومهما يكن، فإن هذه المعلومات تبقى ثمينة ومفيدة، وتعطي للباحث الكثير من العناصر التي تمكنه من وضع اليد على جانب مهم من تاريخنا العسكري.

 

قمت بترجمة هذه القاعدة المعلوماتية من الفرنسية إلى العربية ملفا ملفا، وجعلتها كلها في ملف من برنامج "أكسيل" لتسهيل التعامل معها، ولتوليد رسوم بيانية من مختلف أعمدتها، ولقراءة تلك الرسوم استتنتاجا واستنباطا.

 

وقد بلغ عدد الجنود الموريتانيين الذين ماتوا في الحرب العالمية الأولى، والذين نشرت وزارة الجيوش الفرنسية ملفا عن كل واحد منهم: 273 اسما، لكن عند الفحص نرى أن العدد الفعلي للموريتانيين المذكورين في هذا الموقع هو 264 شخصا؛ لأن هنالك أربعة فرنسيين وسنغاليا مذكورين غلطا أو لسبب أجهله ضمن هذه الملفات، كما أنه تكررت أربعة أسماء بنفس المعلومات.

 

وفيما يلي رسوم بيانية توضح جوانب معلوماتية حول هؤلاء الجنود:

 

أولا: حول أسماء الجنود

 

 

 

يمثل هذا الرسم البياني الأسماء الأكثر شيوعا في صفوف الجنود الموريتانيين الذين توفوا في الحرب العالمية الأولى. ويعكس حجمُ الاسم تواترَه وكثرةَ وروده في قاعدة المعلومات.

 

ومن الملاحظ أن أسماء مثل: صمب ومامادو وآمادو كانت أكثر حضورا بين هذه التسميات، بينما كانت أسماء من نوع: سالم وعبد الله والحسن والمولود أقل تواترا. ويعود ذلك إلى أن أغلب المكتتبين كانوا من منطقة الضفة، وخصوصا ولايات غورغول والبراكنة وغيديماغا، بينما كان حضور مناطق مثل الترارزه والعصابه وتكانت أقل، وتغيب عن هذه الملفات ولايات الحوضين وآدرار والشمال الموريتاني كله.

 

ومن الملاحظ أن قاعدة المعلومات هذه لا تحتوي على جنود مكتتبين من البوادي الموريتانية وأهلها المتنقلين في الحوضين والترارزة والبراكنة والعصابة وتكانت وآدرار والشمال الموريتاني كله، وربما يعود ذلك إلى عدم خضوع سكان البوادي بشكل صارم للسلطة الفرنسية، وعدم التحكم فيهم بحكم ظعنهم الدائم، بخلاف سكان القرى في الضفة الذين يفرض عليهم الاستقرار والتقري أن يكونوا محتكين بشكل مباشر بالإدارة الفرنسية، وعرضة لقراراتها.

 

ثانيا: الفئات العمرية للجنود الموريتانيين

 

 

 

يلاحظ من هذا الجدول أن نسبة 43% من الجنود كانو في ريعان شبابهم؛ حيث كان المنضوون تحت هذه النسبة المئوية الكبيرة هم ما بين 18 إلى 24 سنة.

 

أما من هم بين 25 إلى 29 سنة فنسبتهم 33%، وهذا يعني عند جمع النسبتين السابقتين أن أكثر من ثلاثة أرباع من ماتوا من الجنود الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى هم تحت سن 29 سنة. ومن الواضح إذن أن من زج بهم زجا في خطوط المواجهة، ودُفِع بهم دفعا إلى فوهات المدافع شبابٌ موريتانيون صغارٌ في مقتبل أعمارهم.

 

أما من تجاوزوا الثلاثين سنة إلى حدود الأربعين فنسبتهم 8%، وتبقى 16% من هؤلاء الجنود لم نعرف تاريخ مواليدهم، وبالتالي باتت نسبهم خارج تحديد الفئة العمرية.

 

وعلى العموم فمن الواضح أن الفرنسيين، وأثناء اكتتباهم للجنود الموريتانيين، كانوا يركزون على الشباب وعلى صغار السن بشكل خاص، ومن المؤكد أن الحالة الصحة واللياقة البدنية كانت عناصرَ حاضرة أثناء اكتتاب هؤلاء الشباب في الجيش الفرنسي.

 

رابعا: التوزيع الجغرافي للجنود الموريتانيين

 

 

 

يبدو أن أغلب الجنود كانوا من مناطق الضفة، فنسبة الجنود المنحدرين من منطقة غورغول هي الأعلى؛ حيث بلغت 40.8%، وتليها البراكنه بنسبة 29.4%، ثم كيديماغا بنسبة 14.9%، فالترارزه بنسبة 8.8% وجاءت العصابة وتكانت بنسب منخفضة 1.5 للأولى و0.4% للثانية، وهنالك ما يزيد قليلا على نسبة 4% لم نعرف مكان تاريخ ميلادهم.

 

وقد كان لانتخاب النائب السنغالي في البرلمان الفرنسي بليز دياني (Blaise Diagne) سنة 1914 مفوضًا عامًا مسؤولًا عن تجنيد السكان للالتحاق بالجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى دورٌ، وخصوصا في سنوات الحرب التالية، في اكتتاب بعض هؤلاء الشباب، حيث وعد هذا السياسي السنغالي سكان غرب أفريقيا وأفريقيا الاستوائية بالأوسمة العسكرية والجنسية الفرنسية والامتيازات الكثيرة وهم ما لم يحصل بعد انتهاء الحرب(3).

 

خامسا: أقدمية الجنود الموريتانيين في الخدمة العسكرية

 

 

 

التحقت 60% من الجنود الموريتانيين بالجيش الفرنسي مع بداية الحرب التي استمرت خمس سنوات كما هو معلوم، وهذا يعني أن ضغط الحرب، وحاجة الجبهات القتالية الفرنسية إلى جنود كانت ماسة، فتم الالتحاق بالجيش بشكل متسرع.

 

أما من تتراوح خدمتهم في الجيش ما بين 5 إلى 10 سنوات فنسبتهم 30%، وهي نسبة معتبرة، وتوحي بأن الإقبال على الخدمة العسكرية كان حاضرا قبل الحرب، وكان يحظي باستجابة مقبولة نسبيا لدى السكان.

 

أما الموريتانيون ذوو الأقدمية في الجيش الفرنسي، أي أولئك الذين تزيد مدة خدمتهم على 15 سنة فنسبتهم تكاد تكون ضئيلة؛ إذ هي أقل من 2%.

 

سادسا: الجنود الموريتانيون والرتب العسكرية

 

 

 

تأتي رتبة جندي من الدرجة الثانية على أعلى سلم رتب الجنود الموريتانيين في الجيش الفرنسي؛ حيث بلغ عددهم 161 جنديا أي نسبة 60.98%.

 

وقد بلغ عدد العرفاء الموريتانيين 28 عريفا أي نسبة 10.6%، وقبلها رتبة الجندي التي أخذت نسبة 14%، وللجنود من ذوي الدرجة الأولى نسبة 10.22%، أما نسبة الرقباء الأولين فتقارب 2%. وجاءت الرتب الأخرى كالملازم والرامي والبواق محدودة جدا.

 

ولا شك أن الظروف الاستعجالية لاكتتاب هؤلاء الجنود، وصغر أسنانهم، وقلة تجربتهم، ووفاتهم السريعة خلال معارك الحرب العالمية الأولى، عوامل حالت دون ترقيهم في الرتب العسكرية، رغم ما ذكرت المراجع من بطالتهم وإقدامهم وحسن سلوكهم.

 

سابعا: أسباب وفاة الجنود الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى

 

 

 

 

 

تنوعت الأسباب والموت واحد كما يقال، إلا أننا لو دققنا في هذا الرسم البياني المهم للاحظنا أن الأمراض التي يسببها مناخ أوروبا البارد كالاحتقان الرئوي والأنفلونزا وذات الجنب وغيرها كانت حاضرة بقوة كسبب من أسباب وفاة الجنود الموريتانيين. وهو أمر مفهوم بخصوص أشخاص لا يعرفون إلا المناخ الموريتاني الحار والجاف، ولم يألفوا قط مناخا شديد البرودة يمتاز بالصقيع وتساقط الثلوج.

 

ويضاف إلى هذا السبب، عندما نفحص هذا الرسم أن أغلب الجنود الموريتانيين توفوا قتلا على يد قوات المحور، سواء كان ذلك في الجبهات التي واجهت الألمان في وسط أوروبا أو تلك التي واجهت العثمانيين في الدردنيل وفي البلقان كما سنرى في الخريطة الخاصة بأمكنة وفيات الجنود الموريتانيين.

 

ولتحليل أكثر سنسعترض أسباب الوفيات خلال سنوات 1916 و1917 و1918 حيث استحر القتل في صفوف الموريتانيين خلال معارك الحرب العالمية الأولى.

 

سنة 1916:

 

 

 

في سنة 1916 سبب وفاة أكثر الجنود الموريتانيين هو نيران قوات المحور، ونسبة المفقودين خلال المعارك تساوي نسبة من توفوا بإصابات. أما الأسباب كالأمراض فكانت نسبتها منخفصة.

 

سنة 1917:

 

 

 

في سنة 1917 سبب وفاة أكثر الجنود الموريتانيين هو نيران قوات المحور، وتليها نسبة من مات بسبب غير معروف، ثم نسبة الإصابات بالجروح. أما الأسباب الأخرى كالأمراض فكانت نسبتها منخفصة.

 

سنة 1918:

 

 

 

في سنة 1918 سبب وفاة أكثر الجنود الموريتانيين هو نيران قوات المحور، لكن هناك تقارب بين نسب من توفوا جراء الإصابات بالجروح مع نسب من فقدوا أثناء المعارك ومن أصيبوا بأمراض.

 

ثامنا: توزع الجنود الموريتانيين على الفيالق العسكرية

 

 

 

 

 

سيطر الانخراط في الكتيبة السنغالية على الأغلبية المطلقة للجنود الموريتانيين المشاركين في الحرب العالمية الأولى، حيث بلغت نسبة الموريتانيين المنضوين تحت هذه الكتيبة 95.45%، وهي الأغلبية الساحقة، أما ما عدا هذه الكتيبة من الفيالق كمستودع مانتون وسلك المشاة المختلط وغيرهما فإن نسبة الموريتانيين فيها كانت ضئيلة جدا.

 

ظلت موريتانيا في التقسيم الإداري الفرنسي مرتبطة بالسنغال، وكون الفرنسيين كانوا يديرون بلادنا من مدينة سان لويس السنغالية ما عدا الحوضين اللذين تتم إدارتهما من بامكو عاصمة مالي، وربما يكون هذا سبب تسجيل الموريتانيين ضمن الكتيبة السنغالية.

 

تاسعا: أين توفي الجنود المويتانيون في الحرب العالمية الأولى؟

 

 

 

يتضح من هذه الخريطة أن مكان وفاة الجنود الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى موزع إلى ثلاثة مناطق: أولا: فرنسا، وثانيا منطقة البلقان وتركيا، وثالثا شمال إفريقيا.

 

ويبدو أن شمال وشمال شرق فرنسا كانت به أكثر مدافن الجنود الموريتانيين، وهو ما يعني أن أغلبهم مات خلال المواجهات بين الجيش الفرنسي والجيش الألماني. وفي حين كان جنوب وجنوب غرب فرنسا أي قريبا من الحدود مع إسبانيا مكان هاما لوفاة الكثير من هؤلاء الموريتانيين.

 

خلفية مشاركة الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى

 

لم يشكل الجنود الموريتانيون المشاركون في الحرب العالمية الأولى وحدة مستقلة بل ظلوا جزءا من الكتيبة السنغالية بحكم العلاقة الوثيقة بين موريتانيا والسنغال في زمن الاستعمار الفرنسي، وكان الجميع ضمن سلاح المشاة في الجيش الفرنسي.

 

وكانت الإدارة الفرنسية تحصر في دكار عاصمة السنغال جميع الشباب المجندين من مختلف مستعمراتها في غرب إفريقيا، بما فيها موريتانيا، ويتم نقلهم بحرا إلى الموانئ الفرنسية.

 

ويبدو أن جنود الكتيبة السنغالية، ومن ضمنها الموريتانيون، كانوا رأس الحربة ضمن الجنود الأفارقة الذي زجت بهم فرنسا في الحرب العالمية الأولى، فقد أبلوا بلا حسنا وأظهروا الكثير من الشجاعة والبسالة والصبر والإيثار، وهي صفات الجندي المثالي.

 

وأغلب هؤاء الجنود هم من فئة الشباب الذين تم اكتتابهم على عجل خلال سنوات الحرب الخمس؛ بحكم ظروف الحرب وحاجة الجبهات الفرنسية إلى مدد بشري. وقد قضت نسبة هامة منهم وبقي بعضهم ورجع إلى موريتانيا أو إلى المستعمرات الفرنسية في شمال وغرب إفريقيا. وتذهب التقديرات الفرنسية إلى أن من توفوا يشكلون ما يناهز نسبة 16% من جميع المسجلين، غير أن أغلب من نجا من الحرب ورجع كان معاقا(4).

 

وصل أغلب هؤلاء الموريتانيين إلى فرنسا منتصف سبتمبر 1914، وانضموا للكتيبة المغربية التابعة لسلاح المشاة الفرنسي، وشاركوا مباشرة في معركة نويون بشمال فرنسا في خريف سنة 1914. كما شاركوا بقوة في معركة الدردنيل ضد قوات المحور بآسيا الصغرى سنة 1915، وغير ذلك من المعارك الفاصلة في الحرب العالمية الأولى(5).

 

في سنة 1917، أصبح النائب عن مستعمرة السنغال بليز دياني مفوضًا عامًا للقوات الإفريقية برتبة أمين عام وزارة للمستعمرات. وقد نجح إلى حد كبير في تجنيد الكثير من الشباب الإفريقي ما بين فبراير وأغسطس 1918. وقد سافر مرارا إلى جميع المستعمرات بما فيها موريتانيا، وقد وعد الجميع بميداليات عسكرية وأجور عالية وتغذية صحية وملابس مناسبة فضلا عن الحصول الجنسية الفرنسية بمجرد انتهاء الحرب. وهو أمور لم ينجز منها شيء(6).

 

وفي بداية الحرب خصصت الإدارة الفرنسية عددا خاصا من مجلة العالم الإسلامي للحملة الإعلامية على الأتراك، فقامت باستكتاب الكثير من أعيان البلاد وأمرائها وشيوخها وغيرهم من أعيان وشيوخ إفريقيا الغربية، للتصدي للعثمانيين، ووصف دخولهم للحرب إلى جانب دول المحور بأنه طيش ونزق(7).

 

ثانيا: ضابط موريتاني في الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى

 

إنه زين العابدين الشيخ محمد الأمين بن زينى القلقمي المولود نهايات القرن التاسع عشر الميلادي في منطقة الحوض، وهو من أسرة أهل الشيخ سيدي محمد القلقمي وهم من بيوت السيادة والشرف في موريتانيا.

 

كان مع والده الشيخ محمد الأمين لما قاد هجرة الغظف الشهيرة سنة 1909 ابتعادا عن الفرنسيين وإيثارا للغربة على مساكنتهم، وكانت تلك الهجرة عبارة عن جمع كبير من الأسر الموريتانية من قبائل شتى، وقد حل الركب الغظفي في منطقة فزان بليبيا سنة 1911م، وشاركوا مع المقاومة الليبية في معارك سواني بن يادم ضد الإيطاليين سنة 1912، وأثناء تلك المعركة تعرف زين العابدين على القائد التركي مصطفى جمال أتاتورك الذي كان على رأس الجيش التركي بليبيا، والذي سيصير رئيس أول جمهورية بتركيا. ومن ليبيا توجهت تلك الأسر الموريتانية إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج والزيارة، ثم شدوا الرحال نحو الأردن، ومن هناك ذهب الركب إلى تركيا وخصوصا مدينة أضنة حيث استقروا هنالك بشكل نهائي.

 

في تركيا انخرط زين العابدين في الجيش العثماني، الذي كان قد تعرف على بعض قادته في ليبيا سنة 1912، وكان مقاتلا شجاعا ضمن كتائب العثمانيين ومن معهم من قوات المحور في معاركهم ضد جيوش الحلفاء. وحسب الوثائق الفرنسة التي بحوزتي فقد ترقى زين العابدين في السلم العسكرية ليصير أول ضابط موريتاني في الجيش العثماني. وكانت علاقات زين العابدين وكذلك والده الشيخ محمد الأمين ببلاط السلطان العثماني عبد الحميد الثاني علاقات قوية، وتعززت مع كمال أتاتورك عند وصوله للحكم وإعلان الجمهورية التركية سنة 1924(8).

 

ثالثا: مشاركة الموريتانيين في الثورة العربية بالحجاز خلال الحرب العالمية الأولى

 

ذكر الباحث محمد ولد مولود ولد داداه في مرافعته في الجلسة السادسة العامة أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي ضمن جلسات تمت في صيف سنة 1975، وكان يدافع عن موريتانية الصحراء الغربية، عند حديثه عن الموريتانيين الذين أقاموا بالمشرق وكان لهم هنالك ذكر، أن العقيد الإنجليزي لورنس تعامل مع أحد هؤلاء الموريتانيين في شمال الحجاز عام 1917، وذكر في كتابه أعمدة الحكمة السبعة أنه قتله(9).

 

وتدل هذه الإشارة على أن للموريتانيين صلة بالحروب التي وقعت في الحجاز بين أشراف مكة المدعومين من الحلفاء وبين الجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى.

 

وتتأكد هذه المشاركة عندما نعود إلى كتاب أعمدة الحكمة السبعة لتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، وكيف كان أحمد البيظاني عنصرا نشطا في جيش أشراف مكة المعبأ ضد العثمانيين في الحجاز. وقد عدت للطبعتين الإنجليزية والفرنسية من كتاب لورنس فهما أدق وأصح من ترجماته العربية.

 

ذكر لورنس هذا الموريتاني عدة مرات في كتابة الأعمدة، وهو يصفه بالبيظاني (Moor) في الطبعة الإنجليزية، أو (Maure) في الطبعة الفرنسي، ويسميه تارة أحمد البيظاني وتارة يسميه أحمد فقط.

 

ذكر لورنس أنه في صيف أحد أيام 1917 كان قد ترك منطقة الوجه بجنوب تبوك، وكان في غاية المرض بسبب سفره الطويل مع الأمير فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي، وكان معه حراس أربعة من قبيلة رفيدة، وانضم إليهم في طريقهم أربعة جنود من قبيلة عجيل ومعهم بيظاني وسليمان العتيبي. فهذا أول ذكر لهذا الموريتاني في كتاب لورنس(10).

 

ويتحدث لورنس عن معرفة هذا الموريتاني بطبيعة الغطاء النباتي في تلك المنطقة الحجازية؛ حيث يذكر أن أحمد البيظاني أخبرهم أن جذع إحدى الحنظلات يمكن أن يكون ذرة جيدة تصلح لعلف الخيل(11).

 

كما ذكر لورنس أن أحمد البيظاني دخل في شجار مع سليمان العتيبي فأرداه قتيلا، وقد ظن لورنس في البداية أن العجيليين هو من قتل سليمان العتيبي نتيجة الثأر القديم بين قبيلتي عتيبة وعجيل. لكن أحمد البيظاني اعترف بأنه قتل سليمان بعد أن هدده بسلاحه فما كان منه إلا أن دافع عن نفسه. ولم يكن لورنس يرغب في القصاص من أحمد لأن في الجيش موريتانيين آخرين، والسماح لأولياء دم سليمان العتيبي بقتل أحمد البيظاني يعني أن أعمالا انتقامية من الممكن أن تحدث، وهو ما سيضع وحدة جيش الأمير فيصل في خطر. ومع ذلك كان إعدام البيظاني ضروريًا كما يقول لورنس الذي اتخذ، وباستشارة من معه، القرار فقتل هو بنفسه أحمد البيظاني رحمه الله(12).

 

ومع أننا لم نظفر بمعلومات وافية عن أحمد الموريتاني، ولا عن الموريتانيين الآخرين الذين كانوا معه في الجيش الحجازي، إلا أن العناصر التي قدمها لورنس العرب عن هذا الرجل في كتابه أعمدة الحكمة السبعة تدل على مشاركة موريتانية واضحة في جيش الحجاز الذي شكله شريف مكة الحسين بن علي وكلف ابنه الأمير فيصل (ملك العراق فيما بعد) بقيادته. ويبدو أن للموريتانيين حضورا في هذا الجيش ربما نظفر بمعلومات أكثر عنه وبوثائق تنير جانبا من دروبه التي ما زالت غامضة.

 

خاتمة

 

يبدو أن الموريتانيين شاركوا في الحرب العالمية الأولى في جميع الجبهات، فكانت مشاركتهم فاعلة في الجبهات الفرنسية في أوروبا وفي آسيا الصغرى، كما أن لهم دورا مع الجيش العثماني ومعاركة، ولم يقتصر حضورهم على هاتين الدائرتين بل يذكر لهم تأثير في الحرب التي وقعت في الحجاز بين جيوش العثمانيين وبين جيش أشراف مكة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين بن علي شريف مكة.

 

غير أن هؤلاء الجنود الموريتانيين ظلوا أبطالا لكن بلا مجد وبلا ذكر، باعتبار أنهم عرفوا ببسالتهم وشجاعتهم في خوض المعارك في جميع الجبهات، غير أنهم لم يجدوا الثناء والاعتبار الذي يناسب ما قدموه من تضحيات ودماء غالية.

 

د. سيدي أحمد الامير

  

         

بحث