حاولتُ منه أن أعرف قصته...منظره يوحي بمأساة أكبر من عمره بكثير...
لفتَ انتباهي جلوسُه وحيدا كلما مررت من أمام الشجرة الكبيرة التي يجلس في ظلها الباعة المتجولون...
لم يكن يشتري شيئا أو يبيع شيئا...ولا ينتبه للعابرين...
منكَّس الرأس...رثّ الثياب...غائر العينين...
في يده عود ينكت به الارض... كأنما يبحث عن شيء ضائع...
ناديتُه ذات يوم لأسأله عن حاله ...لم يجبني...لم يعرني أي اهتمام ...نظر إليّ شزرا...
اقتربت منه...جلست أمامه..سلمت عليه...ما اسمك بُنَيّ ؟
انتفض قائما...غادر بسرعة....كأنما ينفر من تطفلي عليه وكسر خلوته.. تجاهل أسئلتي.....رفض الجواب عليها...
مرَّ أسبوع على هذه الحادثة ...عدتُ مرة أخرى إلى نفس المكان....وجدته كما رأيته أول مرة ..
نفس الملابس الرثة...نفس الهيئة...يجلس مُحتبئا..يركز نظره في الارض...
هذه المرة عدت وفي يدي "كيسٌ" بداخله عصائر وساندويتشات خفيفة...وضعتها في يده دون أن أسأله أو أكلمه..
غادرتُ المكان بسرعة كما غادرني هو قبل أسبوع.......
على بعد خطوات منه...
استرقتُ التفاتة من طرف خفي... رأيته يفتح الكيس ويتناول عصيرا... أسرعت الخطى حتى لا يراني ........
بعد يومين ....مررت بنفس المكان ...وقبل أن يراني...سألت أحد الباعة المتواجدين عنه... قال :
دعكَ منه....مجرد طفل مجنون...يأتي كل يوم....لا يكلم أحدا ...ولا يكلمه أحد....يجلس هنا حتى العصر وأحيانا الى الليل..يأكل من الفضلات مع القطط والكلاب الضالة..
اتجهتُ إليه...ناولته بعض الأشياء التي أحضرتُها لأجله ...لاحظت أنه بدأ يستأنس بي أكثر من السابق...
طلبتُ منه أن يجيب على أسئلتي....رَمقني بعيون حزينة...لم أعطه فرصة للمغادرة هذه المرة...
اعتبرني في منزلة والدك ..قلتُ له...
أين يقع منزل أسرتك ...ومع مَن تعيش...؟؟
قال : أسكن مع زوجة عمي.....
وأين أبوك؟
أبي ...أبي....هل تعرف أبي....هل قابلته...هل قابلتَ أمي..ثم بكى بكاء شديدا.....
رثيتُ لحاله وبكيتُ لبكائه...احتضنته لعدة لحظات.....رَبَتُّ على كتفيه...
كفكفتُ دموعه...لمحتُ الاستغراب والاستهجان في عيون البعض...
لم يفهم أحد من الحاضرين سرّ بكائي أو بكائه....
غادرت المكان وفي نفسي غصّة من ألم وحزن ..
خطوتُ خطوات متثاقلة....
خطواتِ مَن يجر سلاسل الحديد في قدميه..
أكلم نفسي تارة...وأرمق الطفل بطرفي تارة أخرى..
ابتعدت ...توارى عن ناظري..
أنا مسافر بعد يومين خارج الوطن...لا أعلم كم سأغيب...
كنت منهمكا في الترتيب للسفر ومتطلباته..
أأسافر وأتركه دون أن أعرف سره ..وأقدم له ما أستطيع..
مالي ولطفل متشرد...وكيف أُشغل نفسي بما لا يعنيني؟
صراع بيني.. وبيني..لا ينتهي حتى يبدأ..لكنه لا يصل إلى نتيجة مقنعة تريحني..
المشكلة أنني لم أستطع التخلص منه...خياله يلاحقني..
حاله...حالته...عيونه الغائرة..منظره الحزين...دموعه المنسابة...مطاردة دائمة...أسئلة حائرة..
فجأة...شعور بالخوف والرعب ينتابني....لماذا؟
لست أدري...
تركت كل شيء....عدت مسرعا حيث تركته...
هذه المرة ..جلبت له ملابس وأحذية رياضية اشتريتها منذ لحظات..
أريد أن يأنس بي...أن يحدثني عن مأساته...قررتُ أن أساعده..أن أنتشله من حالة البؤس والضياع..
لمحتُ تجمعا على ناصية الشارع...سمعت جلبة....أسرعت...
دون شعور...رميت ما كان في يدي...ركضت..
تسمرتْ قدماي...تسارع نبضي...رأيت وجهَ الصبي ..دماء غزيرة تسيل من جبينه..
يالله...يا للهول.....ما الذي حدث؟!!!
رميت نفسي عليه..حملته بين ذراعيّ..صرخت...بكيت بصوت مرتفع..سمعت مَن يقول : كان يهم بقطع الشارع فصدمته سيارة مسرعة...
في الطريق إلى المستشفى ...رفع بصره الى السماء..فرحتُ..سألته : بُنيّ أين أسرتك...
تبسم ابتسامة دامعة...ابتسامة من أدرك الحقيقة...مَن شاهد الحق..
أسرتي؟
أمي ماتت منذ سنوات...
أبي في الأسر..لا أدري أحي هو أم ميّت...
أنا لاجئ من عرب أزواد...
ثم....ثم ...........سَكَنَ جسمه النحيل...سكتَ صوته المبحوح....وضع يده في يدي...ضممتها إلى صدري...
أقبلتُ عليها لثما وتقبيلا..
مضت مشيئة الله....
أجّلتُ سفري أسبوعا لأنني لم أستطع نسيان ما حدث...
ضاع كل شيء...حتى الملابس الرياضية والاحذية ضاعت...
تلك قصة من مئات القصص المأساوية التي تمر بها الشعوب الواقعة تحت وطأة الحروب واللجوء والتشرد.
بقلم/ محمد محمود محمد الامين