![](https://eljewahir.com/sites/default/files/styles/large/public/field/image/1670862652938_1.jpg?itok=5a6tFfqu)
آخر حلقة من قصة "اخديجة"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقيّ أخو القاسم الأصغر أحمد في "لخيام" بعد سفره وكان قد أوصاه سرا أن يرسل إليه بكل شيء يتعلق بزوجته فهي بمثابة شقيقته وفي نفس عمره تقريبا.....
حين علم أحمد بحمل زينب سارع بكتابة الخبر إلى أخيه...كاد القاسم أن يطير من الفرح ...قرر العودة ليكون بجانبها..يخفف عنها آلام الحمل بقربه منها....يغمرها بحبه ..بعطفه وحنانه..يحدث نفسه أنه سيكون أول من يرى مولوده القادم...يصرخ بالأذان في أذنه اليمنى وبالإقامة في اليسرى...سيسميه...سيسميه...يقطع صوت صاحب الدكان عليه حبل أفكاره..
قل لي : هل ما زلت مُصرا على العودة ولم يمض على وجودك معنا سوى خمسة أشهر...خيرا إن شاء الله....هل وصلك ما يستدعي العودة بهذه السرعة؟ أسئلة لا تنتهي يطرحها صاحب المحل....كان قد اطمأن للقاسم....لصدقه...لأمانته....وكان قد قرر السفر الى اهله وترك كل أعماله بيد القاسم ...فوجئ لما سمع أنه عائد إلى أهله بعد أربعة أيام.
في صباح يوم من أيام الثلاثاء ..استقل القاسم الحافلة متجها نحو الشمال .....تعود به الذكريات الى أيام الطفولة..إلى أحلام الصِّبا..إلى مرابع العشيرة في رحلة الشتاء والصيف..إلى الظلال الوارفة ,إلى العيون الجارية..الى منظر زينب وهي تركض خلف الفراشات الملونة تطاردها من شجيرة الى غصن ..جدائل شعرها الطويل تطير خلفها ,وهو يضحك ويستمتع..يركض خلفها تارة...ويمسك يدها تارة أخرى خوفا عليها من الضياع او الغرق في مياه العين التي يوحي منظرها أنها ضحلة ..لكن لُجّتها تكفي لابتلاع طفلة في عمرها.
اجتاز النهر الفاصل بين الحدود....ركب سيارة "بيجو 504"..طاف به إحساس غريب....همس في أذن شخص بالقرب منه :
إذا أنا مت فأخبر أهلي في موضع كذا أنني......وأخبر زينب أن تسميه يحي...
ما كاد القاسم يُنهي كلامه حتى انقلبت السيارة ثلاث مرات ثم اعتدلت كما كانت...لاحت منه التفاتة ...رفع رأسه الى السماء وابتسم :
ألم أقل لهم أن أجلي سيكون بسبب رصاصة أو حادث سيارة...وانطفأ النور...نعِقَ غراب البين إلى الابد...التحقت الروح ببارئها.
تقول "اخديجة" وهي تعود بالذاكرة إلى أصعب اللحظات في عمرها :
لم تستطع زينب تحمل الخبر..فاجأها المخاض قبل أوانه بشهرين تقريبا ..بذلنا كل ما نستطيع...لكنه القدر..اختارت أن تلتحق به في عليين....تركت لي يحي ضعيفا وحيدا...
عمه أحمد مات بعد سنتين بنفس الطريقة....حادث سيارة...لم يمت غيره من الركاب...نعم هي لعنة الحديد التي رافقت الاسرة.
ولدي يحي التحق قبل سنة بالجيش..هو الآن جندي يقف على الحدود ..حيث العصابات ...حيث المهربون والجماعات الارهابية...أخاف عليه أن........لم تستطع أن تكمل..
تبكي بحرقة...نبكي جميعا لبكائها....ترفع رأسها الى السماء طويلا ..تمد يديها المرتجفتين..عاليا...
ترمقنا بنظرة ...تسألنا : أتعرفون من هذه الفتاة الجالسة بجانبي؟
هي زوجة يحي.....حامل في شهرها الرابع...تتناول وسادة ..تضعها في حضنها ..وتنحني عليها بكل جسمها النحيل المُترهل....تقول في صوت ضعيف تخنقه العبرات..."أطلبولي مولانا ليحي"
بقلم محمد محمود محمد الامين
القصة نشرتها قبل سنوات وأعيد نشرها اليوم....