من العظماء من يشعر المرء في حضرتهم بأنه صغير، لكن العظيم بحق هو الذي يشعر جميع من في حضرته بأنهم كبار!
وأنا أتابع الأحداث السياسية شدني تاريخ الرئيس الراحل لتنزانيا جون بومبيه ماغوفولي وعمره 59 سنة وحقق ما لم يحققه أي رئيس دولة في العالم، فمن هو؟ وماذا فعل ليستحق أن يطلق عليه اسم الرئيس البلدوزر؟
بعد انتخابه اعتقل كبار المسؤولين وطرد عشرة آلاف موظف مرتش فاسد وقام بمثل ما قام به مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي!
كلنا يعرف ان تنزانيا من أفقر دول أفريقيا وعدد سكانها نحو 56 مليون نسمة وبها فساد مستشر مما جعلها منذ نصف قرن في حالة فقر وعوز وقروض وديون!
ساق القدر لها الرئيس جون بومبيه ماغوفولي الذي ولد عام 1959 وحصل على درجة الدكتوراه وعمل مدرسا في إحدى المدارس الثانوية وعمل بعدها في إحدى الشركات الصناعية ثم انتخب عضوا للبرلمان التنزاني في السادسة والثلاثين من عمره في عام 1995 ثم تولى مناصب حكومية رفيعة، أهمها وزير العمل ووزير المستوطنات البشرية ووزير الأسماك والثروة الحيوانية خلال الفترة (2000 ـ 2015) حتى أصبح رئيسا لتنزانيا.
وصل الى الحكم فشنّ حملة تطهير على جميع أنواع الفساد في المناصب الحكومية، كما عمد الى إزالة كل المخالفات التي تكبد الدولة الأموال، أقال النافذين وكل رؤساء المصالح الحكومية وتصدر المانشيتات (الشعب يشكر الرئيس البلدوزر)!
قلص عدد الوزراء في دولته من 30 إلى 19 وخفض الوفود الحكومية الى الحد الأدنى.
زار المستشفى الرئيسي في الدولة فوجد جميع الأجهزة لا تعمل والمرضى يفترشون طرقات المستشفى فعزل كل المسؤولين وخلال أسبوعين أصلح ما أفسده الآخرون وألغى ميزانيات احتفالية ورفد المستشفى بهذه المبالغ فقدم المستشفى رعايته للمرضى!
واليوم يعد المستشفى الرئيسي في تنزانيا من أحسن مستشفيات أفريقيا!
لقد تعهد الرئيس التنزاني لشعبه خلال حملته الانتخابية بأن يقضي على الفساد خلال 3 سنوات، ولكنه نجح في ذلك قبل هذا التاريخ بتطهير البلاد من الفساد والرشوة والانتفاخ البيروقراطي، وطهر بلاده من المعارضة الفاسدة، وسنّ سلسلة من القوانين التي تحكم البلاد، وأطلق العنان للصحافة للانتقاد والنشطاء، كما حظر التجمعات المعارضة كجزء من استراتيجية الحكم ونشط العمل المؤسسي وما أسماه «الولاء الهادي»، ولعله نجح الى حد كبير في تأكيد استقلال تنزانيا عن الحكومات والمؤسسات الغربية التي تقدم لها المعونة، وانفتح على الصين في محاولة الدخول الى السوق التنزانية دون شروط، وقد حصل على مكاسب جمة من إدخال «التنين» في اقتصاد بلاده!
الرئيس البلدوزر كشف للشعب التنزاني عن ان راتبه 4000 دولار، أي ما يعادل 9 ملايين شلن تنزاني، وهو بذلك أقل الرؤساء الأفارقة أجرا، فعلى سبيل المثال رئيس كينيا يتقاضى 14 ألف دولار، بينما يحصل رئيس جنوب افريقيا على نحو 20 ألف دولار، كما خفض رواتب كل مسؤولي الشركات الحكومية. وقال: من لا يعجبه يرحل!
٭ ومضة: هذا الرئيس الأفريقي أنموذج جيد للإصلاح الرئاسي، ولهذا لا عجب ان أسماه شعبه «جون بومبيه قاهر الفساد والمفسدين في تنزانيا»!
هو بكل صراحة يحاول ان ينتشل بلاده التي يقطنها 56 مليون نسمة من المرض والجهل والفساد، وهو بلا شك أنموذج فريد في مكافحة الفساد (انموذج عملي) كما مهاتير محمد. ويتصدى للفساد بمزيد من الحزم والإصلاح وإظهار القدوات، ومثال للإرادة التي أرعبت المفسدين وعلامة من علامات التغيير الافريقية التي تركت بصمة، كما هو حاصل في سنغافورة (احترم نفسه وشعبه) ووضع اسمه في صفحات سجل التاريخ النزيه كرئيس منتخب!
وهكذا نجح الرئيس البلدوزر في تحقيق النصر بعد ان تحمل الضربات فكان كمن يحدد مصيره بالنصر!
٭ آخر الكلام: واجه الرئيس التنزاني البلدوزر الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة بمزيد من الحزم والصرامة وهو بهذا أعطى دروسا لحكام أفريقيا وغيرهم بالمبادأة باتخاذ القرارات الجريئة والضرب بيد من حديد على ايدي الفاسدين، ومارس الدور الرقابي على الكل وجعل بلاده تتقدم في قائمة (حرية الصحافة) على دول كثيرة محيطة بتنزانيا رغم ان بلاده تأتي في المرتبة الثالثة والثمانين!
٭ زبدة الحچي: رئيس استطاع ان يقنع شعبه بخطواته الإصلاحية ويقوم بدور القائد القدوة فهو الزعيم والرئيس والقائد والمستشار، رفض القيادة الأوتوقراطية، وتبنى القيادة الديموقراطية الحرة والموقفية الناجحة، وسر نجاحه جرأته وقدرته على التأثير وتواضعه والسير في الحكم بفكر إيجابي بادئا بنفسه رافعا شعارا جميلا هو: من عجز عن إصلاح نفسه، كيف يكون مصلحا لغيره؟
وهكذا طبق الرئيس التنزاني الملقب بالبلدوزر نظريته، موضحا لشعبه ان كل إصلاح يفرض بالعنف لن يعالج الداء وأن الحكمة أن تبتعد عن العنف!
يوسف عبد الرحمن
فهل سيجود الزمان برئيس إفريقي أو عربي مثل الرئيس التتنزاني الراحل؟
نتمنى ذلك