الحلقة (10)
21 – العدوى
قلنا إن الانقلابات والانتخابات فى موريتانيا سواء فى تحصيل التناوب السلمي على السلطة. وقلنا أيضا، إن الانقلاب لا ينجح فيها إلا إذا كان سلميا أبيض؛ فمتلازمة اللون الأحمر مؤثرة بقوة فى نجاح الانقلاب. عندما يدخل الانقلاب فى مرحلة التنفيذ، وتسيل قطرة دم واحدة، يصاب الانقلابيون بعمى الألوان وفوبيا اللون الأحمر. يفقدون الصواب، ويفشل الانقلاب. لكنهم ينقلون العدوى إلى الحاكم الذي عندما يصاب بالفيروس، يبدأ العد التنازلي للتداعي والسقوط.
كان نظام ولد هيدالة بعد 16 مارس، نظاما متداعيا فى المنطقة الحمراء، ينتظر السقوط. وتداعى نظام ولد الطايع، بعد فرسان التغيير. وكان العد التنازلي لسقوط نظام ولد داداه، قد بدأ مع أول رصاصة تطلق فى حرب الصحراء.
أما ولد عبد العزيز، فانتهى أمره يوم رفض الشيوخ تعديل الدستور. كان انقلابهم فاشلا، لكنه أدخل عزيز فى المنطقة الحمراء؛ منطقة التداعي والسقوط.
فترة ولد عبد العزيز، وقبله ولد محمد فال، كانتا فترتين ذهبيتين استعاد فيهما الجيش هيبته وكبرياءه بعد سنين عجاف. وكانت فترة ولد محمد فال فترة ذهبية للعسكريين والمدنيين على حد سواء. كانت فترة المصالحة، وإعادة التأسيس، لولا ما شابها من حديث البطاقة البيضاء، وكذبة البترول، وتصفية الحساب مع أنصار معاوية، وتعديل الدستور من أجل خدعة الترشحات المستقلة، لحرمان ولد داداه من الرئاسة…
كانت فترة جميلة، لكنها كانت قصيرة.
22 – الأمير
أما اليوم، فنحن نعيش فى أمنية الغاز، ومقبلون على فترة لما تتحدد معالمها بشكل واضح، لكن الاتجاه العام، هو حكم لأهل الشرق، لا يطغى فيه النظام العسكري تماما على النظام المدني، ولا تطغى فيه القيم العسكرية – بالكلية – على القيم المدنية؛ لأن “الرعية على قلب الأمير”، والأمير رجل من فئة الزوايا الذين لا علاقة لهم بالسلاح، ولا بالعقيدة العسكرية.
قبائل الزوايا فى المناطق الشرقية من موريتانيا، مقسمة بين مجموعتين، إحداهما كانت تحمل السلاح، وتخوض الحروب، والأخرى لا تحمل السلاح، وهي التي ينتمي إليها الرئيس.
دخلنا مع ولد غزواني فى نظام يشبه “المأمورية الثالثة”. نعم، هي مأمورية ثالثة، صنعها ولد عبد العزيز لنفسه، لكنها جاءت من نصيب صديقه وشريكه فى الحكم.
لا يمكن للرئيس الجديد أن يتنكر- بأي حال من الأحوال – للمأموريتين الماضيتين، إذ كان شريكا قويا وضامنا لاستمرارهما، وليس بوسعه أن يغير التاريخ، ويمحو العشرية الماضية بجرة قلم، كما فعل الرؤساء الذين سبقوه؛ فأولئك كانوا يبنون نظاما جديدا، على أنقاض نظام مقلوب.
أصحاب الطبول والمزامير والأقلام المأجورة فى ورطة؛ إن هم أدانوا العشرية، وقالوا إنها سوداء، ينالون من شخص الرئيس، بحكم مشاركته الفاعلة فيها؛ وإن مجدوها، وقعوا فى المحظور.
كلمة من قالها يسقط فى النار، ومن لم يقلها يخش فى النار.
23 – العهد
لن يتخلص ولد الغزواني بسرعة من عقدة العهد مع ولد عبد العزيز؛ عقدة الطعن فى الخلف للرفيق. الاسم الذي اختاره مستشاروه لبرنامجه الانتخابي “تعهداتي”، أو اختاره هو بنفسه، يذكر دائما بعقدة العهد.
لم يجد عزيز وغزواني من يتضامن معهما فى محنتهما الراهنة، بشأن عقدة العهد، إلا الخليل النحوي فى مقاله تحت عنوان : “عن الوفاء وقيم التداول على الحكم”. مقال ساق لهما فيه أمثلة رائعة فى الوفاء، منها ما حدث بين يوسف بن تاشفين وابن عمه أبو بكر بن عامر فى التناوب السلمي على السلطة، إثر نصيحة امرأة؛ ومنها التناوب بين سنغور وعبدو ديوف فى السنغال، وبين ديغول وجورج بومبيدو فى فرنسا.
لكن ولد النحوي كان أكثر إنصافا وميلا – فى مقاله ذلك – إلى الرئيس الحالي، حين نصح عزيز بالتنازل عن حقه فى ممارسة السياسة، كي لا يشوش على صديقه الرئيس.
ولم يجد عزيز حين جلس وحده من يتضامن معه فى السياسة إلا اثنان، هما بيجل ولد هميد، وسيدنا عالي ولد محمد خونه. وكان ولد هميد آخر الأوفياء لعهد ولد الطايع.
والإنصاف يقتضي أن نساوي بين عزيز وغزواني فى مسألة العهد؛ إذ نحن لا نعرف أيهما ظالم، فهما شريكان فى كل شيء منذ الانقلاب على ولد الطايع إلى اليوم، ولم نطلع على بنود الاتفاق بينهما، حتى نعرف أيهما نكث العهد للآخر. لكن عزيز الآن، بعد أن تخلى عنه الجميع، أصبح هو الحلقة الأضعف، وهو إلى الإنصاف أحوج.
كما أن قوة الكاريزما فى المعارضة، لا تقاس بعدد المناصرين، وإنما بالطموح والقدرة على الصمود. ومن السهل على عزيز أن يكون اليوم زعيما للمعارضة. لكنه تلقى أول ضربة سياسية موجعة يوم فجرت زيارته المفاجئة لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، جدلا حادا بشأن المرجعية.
أما ضمير النسبة فى عبارة “تعهداتي”، فيشير بوضوح إلى ربط المسألة بشخص الرئيس، وتلك عقدة أخرى، يفرضها على القائد نظام التصفيق للقائد الزعيم؛ فلا بد – كي يكون التصفيق حارا، ويكون الرقص جميلا – ألا يسمع صوت أعلى من صوت الرئيس، وألا يظهر ظل على جدار السلطان أعلى من ظله، وفق فيكتور هيكو فى كتابه “مسيرة التاريخ” La marche des siècles حين كان يصف عقدة السلطان من ذلك القائد الذي عاد منتصرا فى حرب الأندلس “Le Cid” (السيد)، وصار الناس يصفقون له ويحتفون به أكثر من الملك نفسه. إن هو قدمه يقال : “الملك يمشي وراء السيد”، وإن هو أخره يقال إن الملك يأتي مثل الرسول، للإبلاغ عن قدوم السيد.
أخذ “السيد” لنفسه ذلك الكبريت، كبريت السيادة، ولم يترك منه شيئا للملك، ملك إسبانيا، وجعله فى ورطة؛ إن هو عاقبه يقال ملك جائر، وإن هو تركه خطف منه أضواء المجد والسيادة.
“السيد” عندنا هو ذلك الشخص المزعج بتفوقه على الآخرين، بتلك النعم الباهرة التي حباه الله بها دون غيره. تلك النعمة، هي التي كان يقول لها اليونانيون الكاريزما.
هي ذلك الشيء الذي كان عند الكفيه ولد بوسيف، والشيخ سيد المختار الكنتي، والشيخ سيدي، وأحمد ولد الديد، والشيخ ماء العينين، وبكار ولد اسويد احمد، وسيد احمد لحمل عيده، ولحزام ولد معيوف، واغموك.
هل من بين القادة العسكريين المقربين من الرئيس والذين يشاركونه اليوم فى الحكم، من هو أهل ليكون هو السيد ؟
هل من بينهم من لديه كاريزما اسويدات ولد وداد، أو جدو ولد السالك، أو فياه ولد المعيوف، أو بوسيف، أو كادير، أو انيانك، أو هيدالة، أو ولد لكحل ؟ لا ندري.
هل عقدة السيد حاضرة أيضا فى النظام المدني وفي الحكومة ؟ هل من بينهم من لديه كاريزما ولد حرمة، أو ولد عمير، أو ولد عبيد، أو بياكي ؟ لا ندري.
24 – اليد
يتبع إن شاء الله ....
للعودة الى ما سبق نشره ,يرجى الضغط هنــــــا