لن أنسى ما حييت ذلك المشهد....
ذات صيف من مصايف الصحراء الملتهب...وقعت هذه الحكاية..
امرأة عجوز وابنتها تحت خيمة من الشَّعر في البادية...
كنت قادما لتوي من خارج البلاد بعد سنوات من الاغتراب...
ذهبت للسلام على تلك العجوز فهي من أقارب أبي رحمه الله..
كان المنظر يدل على حالة شديدة من الفقر المدقع...
حصيرة واحدة بالية...بقايا بطانية مهترئة....شيء يشبه وسادتين من الجلود..
دجاجات ثلاثة...إبريق قديم متسخ وكأس واحدة..
جلست بجانبها ...اعتنقتها..فاضت عيناها....لمحتُ ابنتها وقد بدا عليها الارتباك والذهول لحظة قدومي...استغربت...تفاجأت...
فهمت أن الامر يتعلق بضيافتي...انصرفتْ خلسة...لكن عيوني تتبّعتْها ...بينما أنا غارق في الحديث مع العجوز...
في البادية ــ في تلك الفترة ــ لا توجد دكاكين ولا مطاعم...
دخلتْ خيمتين بالجوار و"أكَـيطون" ثم خرجت لا تحمل شيئا...
فهمتُ أنها لم تجد ما كانت تبحث عنه...
عادت من جهة غير التي ذهبت اليها..ظنا منها أنني لا أراقبها ..
كان العطش بلغَ مني مبلغا كبيرا لطول المسافة التي قطعتها مشيا على الاقدام...
جلستْ على استحياء ...ولّتْني ظهرها....رأيتها تأخذ قليلا من "الوركَـة" يبدو أنه كل ما لديهم...وضعته في الابريق مع قليل من الماء على حفرة جمر بجانبها..ولما وصل درجة الغليان...أفرغته في الكأس.....
العجوز منهمكة في الاسئلة ...وأنا أراقب الفتاة من طرف خفي....وقلبي يتقطع ألما لحالتهم..
تناولتْ قدَحا من "يطّة" وصبّت فيه ماء باردا من "الشنّة" بجوارها... سكبت الابريق فيه ثم أضافت السكر..
ناولتني القدح...شربتُ حتى ارتويت...شربة هنيئة مريئة...ما شرِبت قبلها ولا بعدها مثلَها...فاضت عيناي بالدموع على خدي...
استأذنت في الانصراف متعللا ببعض المشاغل ..لا أحب أن أحرجهم أكثر من ذلك...
رغم مرور السنين , ظلت هذه الحادثة حاضرة في الذهن...تُوفيت العجوز...وتزوجت الفتاة..وبقيت الصورة محفورة في الذاكرة لا تُمحى...
كرمُ البسطاء ولذة طعامهم أحب اليّ ألف مرة من موائد الاغنياء....
بقلم/ محمد محمود محمد الامين