– الماء
تجمعت قوى المعارضة فى ساحة ابن عباس أيام عز الربيع العربي، وأوهام التغيير. ضربوا الخيام وجاءوا بالطعام والحشود، وقالوا إنهم لن يغادروا حتى يرحل العسكر. كان الناس تلك الليلة متحمسون ويتجولون بحرية، يشربون الشاي، ويعلقون فى المباشر على أثير الإذاعات الحرة، يقولون ما يشاءون فى مكرفون موريتانيد وإذاعة نواكشوط.
كان ذلك انقلاب مدني أبيض على حكم العسكر. لكنه فشل فشلا ذريعا.
كان من بين الزعماء المدنيين أحمد ولد داداه، وجميل ولد منصور، ومحمد ولد مولود.
كان الجو مفعما بالبهجة والحنين إلى داكار، وما قبل داكار ، وإلى الفترة الانتقالية، إذ كان ولد محمد فال حاضرا على منصة القادة، إلى جنب صالح ولد حننة. وهما اللذان لديهما تجربة فى الانقلابات.
كانت قوات الأمن وعناصر أمن الطرق يتجولون فى أرجاء المكان فى سيارت فاخرة، وينظمون المرور بأريحية وانضباط.
سألت صديقا لي جاء لتغطية الاعتصام، عن رأيه فى مآل الأمور، قال لي : “وفق تجربتي الشخصية فى تغطية هذا النوع من الاعتصامات فى البلدان المماثلة، هؤلاء أمرهم هين وبسيط، وإذا جئت هنا فى الصباح الباكر، لن تجد إلا النعال، وقماش الشعارات، والحجارة المكسرة، أما حقائب النساء والهواتف فتلك سوف ستختفي قبل طلوع الفجر.”
وقيل إن الأوامر قد صدرت حينها، بإخلاء الساحة قبل طلوع الفجر من جميع الكائنات الحية، وبأقل تكلفة.
تمت عملية الإخلاء بنجاح وبسرعة فائقة فى الساعات المتأخرة من الليل. انتهزوا فرصة غياب ولد محمد فال، لأنه كان محرجا لهم، بسبب رتبته فى الجيش، ولم يعبأوا بحضور زميلهم الأخر صالح ولد حننه، ربما لعامل السن أو الرتبة العسكرية.
جاءوا بماء طهور، وكلاب أليفة، ثم أخذوا مسيلات دموع من النوع الرديء الذي لا يحدث إلا الفرطقة، وباغتوهم من جميع الجهات، فهربوا تاركين نعالهم، وشعاراتهم المبللة خلفهم، فانتهت قصة الاعتصام، ومطلب الرحيل، ولم يبق منه سوى الاختلاف بشأن طهارة الماء. ولا نستطيع أن نؤكد ولا أن نفي مثل كلومار، أن ذلك الماء الذي صبته قوات الأمن على المتظاهرين كان طهورا صالحا للعادة والعبادة.
علق شيخ كبير من أنصار عزيز، عندما أخبروه بقصة الماء البارد والكلاب والفرطقات : ” هذا ضرب من الهزل واللعب يقال له “المَرّْ” ولا علاقة له بالسياسة والجد؛ هزل يذكر بطلاب المحاظر فى المناسبات الاجتماعية.
مطلب الرحيل مطلب هزلي مدعاة للضحك، ضرب من “المَرّْ” ، والرد عليه لا يكون إلا بـ “المَرّْ” كالرش بالماء البارد والأصوات المزعجة، من أجل السخرية والضحك.”
وعلى المدنيين أن يعرفوا قدرهم، ولا يقتربوا من قصر الرئاسة.
39 – بلقيس
يفرض القانون الموريتاني أن يكون الرئيس مدنيا، ويفرض الواقع أن يكون عسكريا، لأن قادة الجيش لا يثقون فى كفاءة المدني ولا قدرته على حماية البلاد من المخاطر الكبيرة.
والصراع بين النظام المدني والعسكري على الزعامة فى السياسة. صراع قديم، كالصراع بين بني أمية وبني هاشم، والتنافر بينهما قائم وعميق؛ إذ يقول كلاهما للآخر مثل قول اللهبي :
“مهلا بني عمنا مهلا موالينا .. لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا”
الله يعلم أنا لا نحبكمُ .. ولا نلومكم إن لم تحبونا“
“كل له نية فى بغض صاحبه .. بنعمة الله، نقلوكم وتقلونا”
يقول المدني : “عودوا إلى ثكناتكم وتفرغوا لحماية الحدود ومكافحة الإرهاب” ، ويرد الجيش بصرامة : “أنتم ثلة من المفسدين، ولا تعرفون إلا السرقة، والنفاق؛ ولن نخلي بينكم وهذا الشعب الضعيف، لتنهبوا خيراته، وتغرقوه فى ويلات الحرب الأهلية، والتفرقة، والفوضى”.
لكن الصراع بين الاثنين محسوم فى موريتانيا بالقوة العسكرية لصالح الجيش، بما هو مخالف لطبيعة الأشياء.
عرش بلقيس العظيم كان قائما على الفصل بين العسكري والسياسي والتكامل بينهما، تكامل المستشار والأمير.
كانت تملك قومها رغم كونهم أولي قوة وبأس شديد، تشاورهم وتخالفهم، لا تتسرع فى اتخاذ قرار الحرب، ويرضون بحكمها رغم كونها امرأة، ليس لها زوج، وتغطي ساقيها بشيء يشبه الملحفة.
لم يتجرأ فرعون مصر رغم جبروته، على سجن موسى أو قتله، قبل أن يقيم عليه الحجة، فلجأ إلى الظهير المدني، وأتى بالسحرة. ولما فشل فى ذلك، قتل السحرة.
40 – حانيناك
يتبع أن شاء الله
للرجوع للحلقة الماضية ،إضغط هنا