تقدم مكتبات المخطوطات في مدينة شنقيط وثائق نادرة، تحفر في الماضي الثقافي السحيق التي تميزت به عبر عصورها الذهبية في احتضان ثقافة هذا البلد لمدة طويلة، وجعلت منها قبلة للوافدين والمغادرين إلى أماكن الحج في البلاد المقدسة، لا بل جعل منها علما وسمة، وسم بها الوطن إلى عهد قريب.
وقد كانت مكتباتها شاهدا على حضور تلك الثقافة من خلال المخطوطات والوثائق النادرة، وعلى الرغم أن مخزونها قد تعرض للضياع والتلف إبان العصور، إلا أن البقية الصامدة احتفظت بأشياء نادرة يظفر بها من له سعة وأناة في البحث والتدقيق، ولا ندعي لأنفسنا ذلك، وإنما هو شعور بأن هذه المدينة لا تزال تحتفظ بما هو مفيد لثقافة البلد، ويكتب تاريخها الثقافي المجيد.
ولعل الوقوف على هذه الوثيقة النادرة في مكتبة ملاي امحمد بن أحمد شريف رحمه الله، والتي يظهر من خلالها ندرة مخزون المكتبة، وبما تختزن من نوادر المخطوطات والوثائق، مما يؤكد أهمية تلك المكتبة، وغيرها من مكتبات المدينة في الحفاظ على التراث المحاط بكثير من المخاطر، المادية والمعنوية. وقد حصلت على تلك الوثيقة بعد فحص دؤوب لجزء صغير من المكتبة التي ولا شك أنها تمتلك غيرها جودة وندرة.
أما فحوى الوثيقة فهي لقاء بين العلامة محمد عبد الله الخرشي المتوفى سنة1101ه، شارح الشيخ خليل بمؤلفه الذائع الصيت بين علماء بلاد شنقيط، والمشهور عندهم بالخرشي. والعالم الكبير الحاج عبد الله بن الفقيه أحمد بن الطالب الوافي القلاوي الشنجيطي.
وقد جرى اللقاء قرب جامع الأزهر، وذلك بعد عودة العالم الشنقيطي من رحلته إلى البلاد المقدسة، ومروره بأرض مصر المحروسة، فما كان منه إلا البحث عن أساطين الفقهاء في تلك الأرض بغية الاستفادة وتلاقح الأفكار، وضرب الرأي بالرأي الآخر. ويبدو أن العالم الشنقيطي أحب أن يكون اللقاء مع فقهاء المالكية أو من له عناية بالفقه المالكي، وخاصة من خلال من له دراية بدستور الفقه المالكي المعروف: بمختصر الشيخ خليل، والذي هو المصدر الرئيس لأهل بلاد شنقيط في تأصيل فقه المالكية، وقد كان له ذلك، حيث تم اللقاء بين العالمين، وتمت المحادثة والمقابلة وطرح الأسئلة التي تهتم بما يطرحه أهل بلاد شنقيط.
ويظهر من الوثيقة أن العالم الشنقيطي، كان دقيقا في طرحه، يقدر المكانة التي يتميز بها محاوره من علم واسع، ودراية متميزة بالفقه المالكي، فمن بين تلك الأسئلة التي تتعلق بالواقع المعاش على أرض بلاد شنقيط حيث يستعمل عبارة قارة هي:"وسألناه": "وسألناه عن من له ماشية غاب بعضها وحضر بعض، وحال الحول فهل يزكي الآن ما غاب وما حضر أو ينتظر ما غاب حتى يقدم ثم يزكه؟ فيجيب الخرشي بقوله: "فأجاب: المعتبر موضع المالك لا موضع المال يزكي ما حضر وما غاب".
وينتقل العالم الشنقيطي إلى قضية بالغة الأهمية عند أهل بلاد شنقيط، ألا وهي أمر مستغرقي الذمة، حيث قال: وسألناه عن مسألة عمت بها البلوى في بلادنا وهي مسألة مال مستغرقي الذمة، هل هو حلال أم حرام؟ فأجاب: مالهم حرام.
فهذان النموذجان من أهم نماذج الأسئلة المتعلقة بواقع بلاد شنقيط، وقد طالت الأسئلة والأجوبة الأخرى أحكاما كثيرة، لها علاقة بالفقه العام، حيث أجاب الخرشي إجابات مختصرة وبالغة الدقة، من دون استشهاد، لأن الموقف لا يتطلب ذلك. ونشير هنا أن الوثيقة تقول بأن الأسئلة طرحت مشافهة ومن دون واسطة، مما جعلها تكون مركزة وتصب في اهتمام العالم الشنقيطي، وعن هموم بلاده بصفة أعم.
ويستفاد من هذه الوثيقة حضور علماء بلاد شنقيط في المحافل الثقافية العربية، وكذا اهتمامهم بالاستفادة من علماء العرب والمسلمين من دون تمييز، لا بل اعترافهم لأهل العلم من أولئك بالمكانة السامقة التي تميزوا بها في بلادهم حتى طار صيتهم، ووصل إلى بلادنا هنا في أقاصي بلاد العرب.
ونحن نعتبر أن هذا اللقاء كان من أقدم ما وصلنا عن علاقة علماء المشارقة، بإخوانهم من علماء بلاد شنقيط، فهو استثمار للتراث الثقافي المشرقي بالتراث الشنقيطي، وتأصيل تلك العلاقة في أقدم وثيقة يمكن أن يوقف عليها.
بقلم إسلم بن السبتي