تتميز المرأة الصحراوية عن غيرها من النساء بالكثير من الصفات، إذ لديها طقوسها الخاصة في العيش والحياة، هذا إلى جانب طرقها للتعبير عما يعتمل بداخلها والبوح بعواطفها، في تمرد على تقاليد المجتمعات الصحراوية المحافظة، والتي وإن حظيت فيها المرأة بمكانة خاصة، فإنها لا يمكن لها الجهر بحبها، والتغزل بمحبوبها، إلا بشكل متنكر، وعبر وسيلة أدبية تعرف بـ "التبراع".
و"التبراع" شعر غنائي خاص بالنساء الحسانيات، لا يوجد إلا في منطقة بني حسان "جنوب المغرب والجزائر وموريتانيا ومالي"، ومصدره في الغالب مجهول، تطلقه الشاعرات الصحراويات في مجالس نسائية خاصة، وتتحررن فيه من كل القيود والأعراف المجتمعية، حيث تتعزل فيه المرأة بالرجل، وتعلن فيه عن حبها وولعها بمعشوقها، وذلك عبر اختزال ما يمكن أن تضمه قصيدة طويلة من التغزل في بيت واحد قوي السبك ومتقن العبارة.
ولأن هذا الإبداع شفوي كأغلب التراث الشعري الغنائي الصحراوي، ولا تتناوله الكثير من الأبحاث والدراسات الاكادمية، فقد كان لا بد من تدوينه وإخراجه في كتاب ليطلع عليه كل من يهتم بهذا التراث الأدبي الصحراوي، وبالثقافة الحسانية تحديدا، والتي لا يمكن إلا أن يكون رافدا مهما من روافد الثقافة المغربية، ولهذا أصدرت أكاديمية المملكة المغربية حديثا، كتاب "Beau Livre" مرفقا بقرص مدمج، بعنوان "التبراع.. الشعر النسائي الحساني"، وهو ثمرة مجهود علمي قام بتنسيقه الباحث الأكاديمي الأنثروبولوجي المغربي رحال بوبريك، وكتبت مقدمته الأستاذة والباحثة بالمركز الوطني للأبحاث العلمية كاترين تين الشيخ، وجمعت متنه وشرحته الأستاذة والباحثة المغربية في ثقافة الصحراء ، عزيزة عكيدة، وترجم إلى اللغة الفرنسية من طرف الباحثة الموريتانية عيشتو أحمدو.
وعن هذا الكتاب الصادر باللغتين العربية والفرنسية، يقول الباحث المغربي رحال بوبريك لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن العمل على هذا المشروع دام أكثر من سنة، وكانت أطول مرحلة هي تلك المتعلقة بالجانب التطبيقي، والتصفيف والإخراج الورقي والصوتي، لأنه "كأي موروث شفهي كان لابد من إدماج هذا البعد، حيث ساعدتنا الشاعرة خديجة لعبيد من السمارة في الإلقاء رفقة العازف الجنحاوي لغظف على آلة (تيدينيت)، لأن الشعر (لغنا) والموسيقى (الهول) لا يفترقان في الثقافة الحسانية".
ومن جهتها صرحت الباحثة المغربية في ثقافة الصحراء الأستاذة عزيزة عكيدة، التي جمعت متن شعر "التبراع"، لموقع "سكاي نيوز عربية" قائلة إن "الثقافة الحسانية ثقافة غنية ثرية وتمثل رافدا مهما من روافد الثقافة الوطنية، وعامل إغناء وإسهام وتفاعل وإدماج، فكانت ومازالت حاضرة بخصوصيتها المميزة، وتنوع مجالاتها وفنونها، إلا أن إدماجها وتوثيقها لايزال تعتريه مجموعة من العقبات المتعددة التي لم تستطع - لحد الساعة- بلورة برامج فعلية أو عملية بمقدورها المساهمة في حفظها وحمايتها من خطر التلاشي والاندثار، باعتبار كونها ثقافة لا تزال شفوية في تداولها".
وأكدت عكيدة أنه على الرغم من شيوع شعر المرأة "التبراع" في المناطق المذكورة إلا أننا لا نجد مدونة شعرية جامعة لهذا الأدب، إلا إذا استثنينا بعض ملاحق البحوث على قلتها، وتكون في غالب الأحيان عبارة عن نماذج مختارة ودالة فقط، وهو الأمر الذي دفعها إلى الانخراط في هذا العمل التوثيقي مع الدكتور بوبريك، الذي اقترح عليها العمل على جمع "ألف تبريعة وتبريعة" لكنها تجاوزت الأمر إلى جمع ما يناهز "ألفين تبريعة"، التي تم انتقاء ما هو أبلغ ومعنى منها ليوضع بين دفتي هذا الكتاب.
وعن خصوصية "التبراع"، تقول عكيدة إنه شعر نسائي خاص بالمرأة في الصحراء، تعبّر فيه عن عواطفها وعن كل ما يخالجها، وقد منحتها خصوصيته، باعتباره أدبا مجهول الهوية في التعبير بكل أريحية، فـأطلقت العنان لتبوح بما يجول بخاطرها، وقد ذهب أغلب الباحثين إلى أن التبراع تحريف لهجي لكلمة التبرع الفصيحة، إذ نجد كلمة تبرع في معاجم اللغة تعبر عن العطاء من غير سؤال والتفضل والبذل، والحال نفسه مع التبراع الذي يتميز بأن صاحبته مجهولة، وهي تتبرع على العاشق "بكاف" يخلد حبها له، ولذا فإن تبرعها ليس حبا في عطاء أو شهرة، وإنما هو ترويح عن قلب مكلوم ونفس معذبة، في حين ذهب آخرون إلى أن التبراع هو جمع تبريعة وتبرع هي من البراعة والإبداع، والتبراع يحمل كثيرا من البراعة والإبداع وما تبذله المرأة من الجهد حتى يصل نظمها إلى مستوى يطرب ويرضي متلقيه، وهذا طبعا دون انتظار مكافأة ممن توجهه إليه. في حين أجد أن التبراع يعبّر عن التعريفين معا، فهو عطاء دون انتظار مكافأة أو مقابل وإتقان وسبك بارع، استطاعت فيه المتبرعة اختزال قصيدة طويلة في سطر واحد، عبرت فيه عن كل ما لم تستطع البوح به في مجتمع بدوي تقليدي، شجونها، تعلقها بالمحبوب، وصفها خِلْقَتِه وَخُلُقِهِ، سلوكه العاطفي، سلطة العادات والتقاليد، الدعاء للظفر بالمحبوب وكل المفاهيم التي تدور في خانة الحب والتغزل، ولعل هذا ما جعل التبريعة تشكل استثناء أدبيا وخاصية للمرأة في الصحراء.
وردا على سؤال استمرار هذا الشعر النسائي بنفس الزخم، أجابت عكيدة قائلة: "إن التبراع مازال متواجدا بنفس الزخم والقوة التي كان عليها"، مشيرة إلى أنه مرّ بثلاث مراحل أساسية، الأولى ارتبطت بالبداوة والرقابة الاجتماعية، حيث كان "التبراع" قوي السبك، بليغ المعنى، وتطغى عليه الرمزية واللغز تماشيا مع عادات وتقاليد المجتمع، ثم المرحلة الثانية التي ارتبطت بتطور المجتمع وانفتاحه والانتقال من البداوة إلى التمدن، وتأثر هذا النوع من الإبداع بمفاهيم جديدة جعلته أقل بلاغة، لأن المتبرعة اهتمت بالشكل وبتوظيف مصطلحات جديدة على حساب المعنى، ثم مرحلة الخفوت، لأن انشغالات الحياة ودراسة الفتاة وعملها يأخذان منها حصة كبيرة من الوقت، كما أن الفتاة لم تعد تجلس الساعات لتنتج خطابا لرجل لا تعرفه، فضلا عن تقليص التطبيقات التكنولوجية الحديثة للهوة بين المتبرعة والمحبوب.
أما في المرحلة الراهنة، فترى الباحثة أن "هناك محاولات لإعادة هذا الأدب وإحيائه، حيث نجد شاعرات يمتاز شعرهن بقوة السبك وزخم المعجم، ويعيدك تبراعهن إلى مرحلة البداوة بمعجم غني، وهنّ بذلك يحيين ثقافة ومصطلحات حسانية آيلة للانقراض، خاصة مع التطورات المتسارعة للمجتمع وانعكاسات العولمة، كما أنهن تمثلن مرحلة أو منعطفا جديدا في التبراع، لأنهن تبدعن بوجه مكشوف ولا تستنكفن الظهور إلا بهويتهن الحقيقية، حيث نجد لبعض تلك الشاعرات صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي يتابعهن الكثير من محبي هذا الشعر، كما أنهن يفتحن باب الإبداع للفتيات المبتدئات تشجيعا لهن على الإقبال على هذا النوع من الأدب، كما تقوم بتوجيههن وصقل مواهبهن في هذا المضمار، وبالتالي فإني أرى أن هناك عودة لهذا النوع من الأدب لمكانته وتوهجه بغية الترفيه عن النفس وتعبير النساء عن مشاعرهن".
وفي توطئته لهذا الكتاب، المعزز بصور من توقيع الفنان الفوتوغرافي الفرنسي هرفي نيكر، يقول عبد الجليل لحجمري أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إنه "ثمرة مشروع جماعي يرمي إلى تجميع وتدوين وترجمة وتسجيل متن شفاهي لشعر التبراع، تم إنجازه من طرف فريق متمكن وذلك بانتقائه مائة قصيدة وقصيدة، ومن ثم أدرج رمزا خاصا في ظهر الكتاب يسمح بسماع التسجيل الصوتي المكوّن من قراءة لهذا الشعر مصحوبة بنغمات تيدينيت وهي آلة تقليدية للموسيقى الحسانية".
وأضاف لحجمري أن "التبراع" يشبه في مواضيعه شعر "الهايكو" الياباني، الذي يعبّر بدوره عن الخوالج وروح الأمكنة والعواطف والطبيعة، ولهذا كان من الواجب توثيقه والحفاظ عليه، خاصة أن دستور المملكة المغربية المعدل لعام 2011، ينص على أن "تعمل الدولة على صيانة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافة المغربية الموحدة".
س نيوز