الدهر لا يدوم على حال , فيومٌ غني ويومٌ فقير , ويوم صحيح وآخر مريض , واليوم صغير وغدا شيخ كبير , والسعيد مَن
رضيّ بما قسَم الله له وما قدّر عليه.
تقول هذه القصة انه كان فيما مضى من الزمن شاب ثريٌّ ثراء عظيما وكان والده يعمل بتجارة الجواهر والياقوت ,وكان هو يُغدق بالعطايا والهدايا على أصدقائه ولا يدخر عنهم أمواله , وهم بدورهم كانوا يجلونه ويحترمونه بشكل لا مثيل له.
ودارت الأيام دورتها ومات والده , وبعد فترة وجيزة افتقرت العائلة افتقارا شديدا فانقلبت أيام الشاب من رخاء الى بؤس وعناء.
وبعد أن نفذ كلما معه , بدأ في البحث عن أصدقاء الماضي , لكنهم جميعا تنكَّروا له ولم يُعيروه أي اهتمام , ثم علِمَ بعد السؤال أن أعزّ صديق لديه أيام الغنى كان يكرمه ويُغدق عليه بالعطايا والهدايا وأكثرهم مودة وقربا منه , أن هذا الصديق أصبح ثريا ثراء لا يوصف , بل أصبح من أصحاب القصور والأملاك والضياع والأموال فتوجّه اليه عسى أن يجد عنده عملا أو سبيلا لإصلاح الحال , فلما وصل باب القصر استقبله الخدم والعمال , فذكر لهم صلته بصاحبه وما كان بينهما من مودة قديمة فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك فنظر اليه ذلك الصديق من خلف الستار ,فرأى شخصا رث الثياب عليه آثار الفقر فعرفه ,لكنه لم يرضَ بلقائه ,وقال للخدم أن يخبروه أن صاحب القصر لا يمكنه استقبال أحد...
فخرج الشاب والدهشة تأخذ منه مأخذها وهو يتألم على الصداقة والمودة كيف تموتان وعلى القيم كيف تذهب بصاحبها بعيدا عن الوفاء , وتساءل عن الضمير كيف يمكن أن يموت وكيف للمروءة أن لا تجد سبيلها في نفوس البعض ,ثم رجع منكسر الخاطر يتأمل في حاله وفي أحوال الدنيا وتقلباتها , واتجهَ الى أهله وهم على مسافة بعيدة , ولما اصبح قريبا منهم , صادف ثلاثة رجال تبدو على وجوههم آثار الحيرة وكأنهم يبحثون عن شيء ما؟ فقال لهم : ما أمر القوم؟ قالوا له نبحث عن رجل يدعى فلانا ابن فلان من أهل هذه البلاد , وذكروا اسم والده.
فقال لهم : إنه أبي وقد مات منذ زمن فحوقل الرجال وتأسفوا وذكروا والده بكل خير وقالوا له إن أباك كان يتاجر بالجواهر وله عندنا قطع نفيسة من المرجان كان قد تركها عندنا أمانة فأخرجوا كيسا كبيرا قد مُلئ مرجانا فدفعوه اليه ورحلوا والدهشة تعلو وجهه وهو لا يصدق ما يرى ويسمع , ثم بدأ يسأل نفسه :
أين اليوم من يشتري المرجان فإن عملية بيعه تحتاج الى أثرياء والناس في بلدته ليس فيهم من يملك ثمن قطعة واحدة.....
مضى في طريقه وبعد عدة أيام صادف امرأة كبيرة في السن عليها آثار النعمة والخير فقالت له يا بني أين أجد مجوهرات للبيع في بلدتكم فتسمّرَ في مكانه وسألها عن أي نوع من المجوهرات تبحث فقالت : أي أحجار كريمة رائعة الشكل ومهما كان ثمنها ... فسألها إن كان يعجبها المرجان فقالت له نعمَ الجوهر , فأخرج بضع قطع من الكيس فاندهشت المرأة لِما رأت واشترت منه قِطَعاً ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد وهكذا عاد الشاب الى حالة اليسر والثراء بعد العسر والفقر , وعادت تجارته تنشط بشكل كبير وسُمعتُه كتاجر كبير للمجوهرات تنتشر في كل البلدان.
بعد فترة من الزمن ,تذكر صديقه اللئيم الذي تنكّرَ له ولم يرضَ باستقباله في قصره , ولم يُؤدِّ حق الصداقة التي ربطتهما طويلا , فبعث له ببيتين من الشعر مع صديق لهما جاء فيهما :
صحبتُ قوما لِئاماً لا وفاءَ لهمْ
يُدعون بين الورى بالمكر والحِيلِ
كانوا يُجلّونَني مُذْ كنتُ رَبَّ غِنىً
وحين أفلستُ عدُّوني من الجهَلِ
فلما قرأ ذلك الصديق هذه الأبيات فاضت عيناه بالدموع , ثم كتب على الورقة نفسها ثلاثة أبيات وبعث بها اليه ,جاء فيها :
أما الثلاثةُ قد وافوْكَ مِن قِبَلِي
ولم تكن سببا الا من الحِيَلِ
أما من ابتاعت المرجانَ. والدتي
وأنت أنت أخي بل منتهى أملي
وما طردناك من بخل ومن قَلَلٍ
لكن عليك خشينا وقفة الخجل !
وهكذا احتال هذا الصديق الوفي لكي لا يبدو وكأنه يتصدق على صديقه أو يمُنُّ عليه , فبعث اليه بالجواهر مع الرجال الثلاثة , ثم بعث اليه بأمه لتشتريها منه بثمنٍ غالٍ من دون أن يعلمَ انها حيلة من صديقه.