بالرغم من التقدم التكنولوجي الحربي الهائل، بدءاً بالقنبلة الذرية وانتهاء بالجرثومية، إلا إنه يبدو أن تتويج الانتصارات العسكرية علي امة من الأمم أو دخول مدينة استراتيجية، لايتم إلا بالطريقة التقليدية، والتي علي رأسها اغتصاب النساء.
فبالرغم من بعض اللوائح العسكرية التي تمنع الجنود من اللجوء إلي اغتصاب النساء أثناء الحروب أو النزاعات الأهلية، إلا إن بعض قادة الجيوش يسامحون جنودهم في حالة تورطهم في اغتصاب النساء. وفي أحايين أخري يشجعونهم عليه كنوع من المكافأة علي انتصارهم، أو يُسْتغل الاغتصاب، في حد ذاته لإشاعة الذعر وبث الرعب في قلوب السكان!
المحير انه علي الرغم من ارتباط الاغتصاب الوثيق بمناطق النزاعات القبلية والحروب المسلحة، إلا إن المواثيق الدولية تكاد تخلو من العقاب الرادع له.
ما زالت النساء بمختلف طبقاتهن الاجتماعية أو فئاتهن العُمْرية، علي راس الفئات المستهدفة بالتحرش الجنسي أو الاغتصاب أو الاسترقاق في مناطق النزاعات والحروب.
يعرف الخبراء الاغتصاب بأنه معاشرة شخص، أو امرأة دون رغبته أو رغبتها، مما جعل بعض المنظمات النسائية تدرج عنف الأزواج في معاشرة زوجاتهم في هذا النطاق.
ماهي دوافع التحرش أو الاعتداء الجنسي الصارخ علي النساء والفتيات والأطفال؟
يعلل بعض الخبراء بان أهم دوافعه الرغبة العدوانية في السيطرة علي الضحية، أكثر من الحاجة إلي تفريع الانفعالات الجنسية والوصول إلي إشباع الحاجة البيولوجية. ويضيف رأي آخر، بان الاغتصاب في حد ذاته عمل عنيف، اقرب، في طبيعته، إلي التصادم. فالكيفية الهمجية التي يمارس بها تنحط بالنفس البشرية إلي مدارك الحيوانية..عندها، تُغَيَّب مفاهيم الردع الاجتماعي كالفحش وعدم شرعية العلاقة والحياء من ذاكرة أولئك الرجال، فتتهاوي كل القيم النبيلة، مفسحة المجال أمام شريعة الغاب، ليتحولوا إلي اسود ضارية تستمرئ الفتك بفرائسها الضعيفة. والادهي والأمر أن المغتصبين صاروا لا يفرقون بين الجنسين، حيث بدأت في العصر الحديث ظاهرة اغتصاب الرجال وامتهان كرامتهم تطل برأسها بشدة، كما حدث في سجن أبو غريب بالعراق.
الفرق ببن المعاشرة الجنسية السوية والاغتصاب، هو أن الأول غريزة بيولوجية، تتحكم في وسائل إشباعها العوامل الثقافية والمفاهيم الاجتماعية مثل طبيعة العلاقة بين الجنسين، والمفاهيم الجنسية والتجاذب وطبيعة المعايير الاجتماعية، ومدي الحرية الفردية والتي تختلف من مجتمع إلي آخر.
اغتصاب النساء… غاية أم وسيلة؟
تتفاوت نظرة المجتمعات البشرية، إلي العلاقات الجنسية بين الطرفين..تبعاً لتفاوت مستوي الوعي الثقافي والاجتماعي والديني.
الانحراف الجنسي أو العنف الجنسي أو الاغتصاب، أيا كانت المسميات، بكل بواعثه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ظاهرة قديمة قدم البشرية نفسها.. فالرأي العام، الذي يعتبر المرأة متاعاً للرجل سواء كان الأب أو الأخ أو احد المحارم، مازال سائداً. وبالتالي لا يخرج اغتصابها عن كونه لطمة موجعة، موجهة في المقام الأول إلي مالكها، وليس المقصود به المرأة نفسها..!
أما في الإمبراطورية الرومانية، فقد كان للقيمة الرمزية لعفة المرأة القدح المعلي. حيث دفع الخوف من أن تجلب المراة العار علي أسرتها، المنظرون آنذاك، إلي اختراع ما كان يطلق عليه حزام العفة. كان حزاما حديديا يغطي به جسد المرأة أسفل السرة. يفتح عند قضاء الحاجة ويسلم المفتاح لاحقاً إلي الزوج، أو يحتفظ به الشخص الذي تؤول ملكيتها له، حتى إشعار آخر. بهذه الكيفية، اعتقد المنظرون، ردحاً من الزمان، أنهم يفعلون الصواب، وأنهم بذلك قد عملوا علي درء مخاطر المرأة عن المجتمع.
كذلك أوردت موسوعة مايكروسوفت طبعة 2003م، أن اغتصاب العذارى في المجتمعات اليهودية القديمة، يُلزم فيه المغتصب بدفع غرامة قدرها خمسين شلناً لوالدها مع الالتزام، بإصلاح خطأه بالزواج منها.
لم تتناول هذه الضوابط الاجتماعية الضرر النفسي أو المادي الواقع علي المرأة. إضافة إلي ذلك فإن معاناتها النفسية لم تكن محل جدل أو نقاش، طالما التزم المغتصب بجبر الضرر الاجتماعي الذي أحدثه للأسرة..!
اختلاف اغتاب النساء من بلد إلي آخر…المعايير
إن البنية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والعقدية هي التي تجعل النظرة إلي اغتصاب النساء يختلف من مكان إلي آخر.. فما يطلق عليه اغتصاب في مجتمع اليوم كان في بعض المجتمعات البدائية، – ومازال- احد الطقوس الوثنية المقبولة اجتماعياً، كما هو الحال في بعض المجتمعات الإفريقية. بهذه الكيفية، كان الرجل يقدم علي الزواج من المرأة وهو علي يقين تام من شيئين: أولا قبول أهلها تزويجه منها والثاني التأكد التام من خصوبتها. هذا النوع من الطقوس، ما زال يمارس في بعض المجتمعات السودانية القصية، حيث تلعب خصوبة المرأة دوراً فاعلا فيه. إن التأكد من قدرة المرأة الإنجابية قبل الزواج منها يعكس أهمية دورها الريادي في الزراعة، باعتبارها “الأداة الرئيسة” في الإنتاج الزراعي. في بعض الأحيان، تفرض الظروف الطبيعية نمطاً تكافلياً نادراً، حينما تضطلع المرأة بمهمة إعالة الأسرة، بينما يسند إلي الرجل مهمة الدفاع عن القرية أو العشيرة، كما هو الحال في بعض المجتمعات في أقصي غرب السودان.
الاغتصاب السياسي…روما الرائدة
ارتبط الاغتصاب السياسي بالملك روميلوس أول ملك لروما، والذي أمر جنوده باختطاف النساء السابينينات (نسبة إلي شعب سابين الذي كان يعيش في وسط ايطاليا الحالية) بغية الإنجاب منهن، وذلك لزيادة عدد سكان منطقته. عرف هذا النوع فيما بعد بـ”الاغتصاب السياسي للنساء”. استهجنه الكثيرون، في ذلك الوقت، وأعتبر حدثاً شنيعاً، خاصة وأنه وقع علي شعب عرف عنه إسهاماته الدينية المقدرة في إثراء العادات والتقاليد الإيطالية.
ساهم الإعلام في العصر الحالي، في تسليط الأضواء بقوة علي موضوع العنف الجنسي في الحروب بحيث ظهر وكأنه سلاح جديد. بينما الواقع خلاف ذلك. ففي الفترة من 1937-1938م، قدر عدد النساء الصينيات اللائي قام الجنود اليابانيون باغتصابهن وحبسهن فيما عرف ب”معسكرات المتعة” بحوالي عشرين ألف امرأة.
و في ألمانيا الشرقية ومنطقة الإقليم الروسي، قام الروس في نهاية الحرب العالمية الثانية باغتصاب ما لا يقل عن خمسة عشرة مليون امرأة. ولم تسلم من الاغتصاب حتى النساء الروسيات المحتجزات في معسكرات ألمانيا الشرقية. الأمر الذي جعل النساء في ألمانيا الشرقية يطلقن علي النصب التذكاري للجندي الروسي المجهول، “النصب التذكاري للمغتصب المجهول”.
أما في الحرب العالمية الأولي اتهم الألمان باغتصاب النساء البلجيكيات.
تقول غريس هالسيل، في النيويورك تايمز، بتاريخ 11فبراير/شباط 1993 م، إن الاغتصاب كان، ومازال، جزءاً لا يتجزأ من الاحتلال، كما هو الحال في نابكينج. وتضيف انه توجد وثائق خاصة باغتصاب الأمريكان للفيتناميات، كما حدث خلال مذبحة قرية ماي لاي الشهيرة. تضيف هالسيل في تعليق لها حول جرائم الصرب ضد البوسنيات المسلمات، بان الصرب كانوا أكثر انحداراً باستغلال النساء إلي درجة لم يسبقهم إليها احد.
“في اعتقادي الخاص أنهم أطلقوا أكثر أنواع الأسلحة شروراً، لا يضاهيها شيء في الشر منذ انطلاق الحرب الجرثومية والقنبلة الذرية ووجهوها ضد أكثر فئات المجتمع براءة النساء والأطفال. ”
و خلال العقد الأخير من القرن الماضي، استخدم الجنود العنف الجنسي في أماكن متفرقة من العالم. ففي الكويت يقدر عدد النساء المتضررات، أثناء الغزو العراقي للكويت، بأكثر من خمسة ألف امرأة. وفي الجزائر قدر عدد النساء والفتيات اللائي تم تحويلهن إلي “نساء المتعة” في أثناء النزاعات الجزائرية في بداية التسعينات من القرن الماضي، بحوالي1600امراة وفتاة.
أشارت المصادر، كذلك، إلي اغتصاب نساء التاميل في سريلانكا ومعاناة العديد من النساء في كل من كشمير وبنغلاديش والشيشان وكمبوديا وقبرص وجورجيا وليبيريا ويوغندا وفي الصومال وهاييتي والبيرو وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان.
و في غواتيمالا، استخدم الجنود الاغتصاب ضد سكان المايا الأصليين أثناء الحرب الأهلية التي استمرت 40 عاما ولم تضع أوزارها إلا في عام 1996.
أما في القرن الماضي، كانت المرة الأولي التي تجدد فيها استخدام الاغتصاب كسلاح في النزاعات القبلية والعرقية في كل من رواندا و البوسنة والهيرسك. لفتت هذه الكيفية بقوة، أنظار المجتمع الدولي والمنظمات الحكومية، في النصف الأول من تسعينات القرن العشرين. ففي رواندا، لم تكتف ميليشيات الهوتو فقط باغتصاب وتعذيب ما قُدِّر ما بين 250،000 إلى 500،000 امرأة، تعذيبا جنسيا أثناء حملة الإبادة ضد التوتسي في 1994، وإنما أضافت إليه بعداً نفسياً آخر. تفتقت عقلية جنود الهوتو عن أداة تعذيبية غير مسبوقة في التاريخ، حيث قاموا باختراع وسم معين وسموا به أولئك النساء التعيسات، بحيث فرض المجتمع عليهن عزلة تامة ولفظهن إلي الأبد.
أما في البوسنة والهرسك، وفي الفترة ما بين 1991-1994م، قدر عدد النساء اللائي تعرضن للاغتصاب ما بين 20،000 ما بين و50،000. واستخدم الصرب الاغتصاب كسلاح تكتيكي، لتحقيق مآربهم الممثلة في استغلال الفئات الصغيرة العاجزة عن الدفاع عن نفسها لإذلالها جنسياً. أوردت تقارير، ما أطلق عليه آنذاك، أطباء السلام physicians for peace حالات اغتصاب لطفلات لم يتجاوزن الثالثة من العمر…! كما عمدوا إلي استغلال النساء بغرض التصفية العرقية، وذلك بعزل النساء عن أزواجهن ثم بحبس الرجال في المعسكرات توطئة لاغتيالهم. وفي نفس الوقت تحتجز النساء ويشرع الجنود في اغتصابهن المتواصل بغية الحمل الاجباري منهم، وبالتالي إضعاف الاثنية البوسنية. الغرض البعيد منه هو انقراض الأمة البوسنية وتحويل البوسنيات بعد جيل أو اثنين إلي مواطنات صربيات.
عرف الأطفال ثمرة هذه المعاشرة “بأطفال الكراهة”، وأبدت الكثير من الأمهات عدم الرغبة في الاحتفاظ بهم.
لم يكتف الصرب باستغلال أجساد النساء كميادين معارك، وإنما سعوا إلي خفض الروح المعنوية لهن وذلك بأخذهن من منازلهن واسترقاقهن بغية إبراز قوة المحتل الغاصب وبالتالي إرهاب المجتمع. فقد حملت الأنباء الواردة من معسكرات الاغتصاب قصة الفتاة البوسنية التي أخذت مع اثنين وسبعين امرأة إلي معسكرات الاغتصاب. كان يتم اغتصابها، مرات عديدة في اليوم وذلك طيلة فترة احتجازها في احدي المدارس. وبعد ترحيلها إلي احد ملاعب الرياضة تحولت إلي خادمة تقوم بغسل ملابس الجنود الصرب ومتنفس لتفريغ انفعالات الجنود وطاقاتهم المخزونة. وأخيرا قام الصرب ببيعها مقابل خمسمائة مارك ألماني لجنديين من جمهورية الجبل الأسود.
موقع الاغتصاب من التشريعات الدولية
تزامنت الصحوة ضد اغتصاب النساء، مع الخطوات التي اتخذها المجتمع الدولي لمقاضاة مرتكبي العنف الجنسي في النزاعات المسلحة. ففي عام 1993، أنشأ مجلس الأمن الدولي، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. وفي السنة التالية، أنشأت الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
علي الرغم من التاريخ الطويل المليء بالإنجازات لمنظمة الأمم المتحدة، إلا انه، باستثناء اتفاقية جنيف لعام 1945 التي تحرم الاغتصاب في مناطق النزاعات الأهلية، لا توجد وضعية خاصة بالاغتصاب في باقي اتفاقيات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان. يندرج الاغتصاب تحت بند سؤ المعاملة. وغالباً ما يتم تفعيل العقاب الناجز له عند ارتباطه بالاسترقاق. فالأول منفرداً، لم يكن يحظى بالانتباه الدولي كثيراً، نسبة لإغفال المواثيق الدولية له، والثاني يعتبر جريمة دولية في حق الإنسانية بغض النظر عن البيئة التي يحدث فيها.
تعتبر انجلترا من أوائل الدول التي شرعت في القرنين الثاني والثالث عشر في سن القوانين التي تحارب اغتصاب النساء ورفعته إلي مصاف الجريمة. للمرة الأولي في التاريخ، عمل القانون العام الذي وضعته علي معاقبة الجاني واستثناء الضحية. وتم تعريف الاغتصاب بأنه معاشرة المرأة بالعنف والإكراه، وبالتالي حُدد النوع المتضرر.
تأتي أهمية القوانين الإنجليزية في أنها رفعت من قدر المرأة ولم تحملها عب الجريمة التي ليس لها ناقة فيها ولا جمل. الغريب في الأمر، انه في الوقت الذي اعتبرت فيه، بعض المجتمعات أن الاغتصاب جنحة تستوجب العقاب، كانت هناك كثير من المجتمعات التي لا تفرق بين الجاني والمجني عليه في تنفيذ العقوبة. وبالتالي تنال المرأة نصيبها من العقاب أسوة بالمغتصب كما ورد في موسوعة مايكروسوفت لعام 2003..
أيقظت، معاملة الاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية، الآمال الكبيرة، بقيام هذه المحاكم بملاحقة مرتكبي العنف الجنسي بطريقة نافذة. غير أنها لم تتقدم كثيرا بما يكفي للتحقيق في جرائم العنف الجنسي ومقاضاة الجناة، كما ينبغي، كما يقول كثيرون من الخبراء في مجال حقوق الإنسان. ولاحقاً، وصف العاملون في هذا المجال، المحصلة النهائية، بعد تأسيس المحاكم الدولية لمقاضاة الجنود المغتصبين خلال النزاع في البوسنة ورواندا، بأنها ضعيفة ولا ترقي لمستوي الطموحات والآمال المعقودة عليها.
بعد ثمان سنوات من المداولات، والمحاكمات الأولية، صدر في عام 2001 الحكم النهائي بإدانة ثلاثة من الجنود الصربيين علي تعذيبهم واغتصابهم للنساء والفتيات المسلمات. وللمرة الأولي في تاريخ العالم، ترفع الإدانة بالاغتصاب إلي مصاف الجرائم ضد الإنسانية. أدانت المحكمة اثنين من المتهمين الثلاثة، باستخدام الاغتصاب كأداة لإشاعة الرعب وتهجير السكان، واستعمال القوة في استعباد النساء المحتجزات. حيث تدرجت مراحل اضطهادهن العرقي، بدءاً بتحويلهن إلي “خادمات الجنس”، ثم تسليفهن، إلي بعض الرفاق، عندما قضوا وطرهم منهن وأخيرا قاموا ببيعهن لمواخير الدعارة.
” إن الاستجابة القضائية كانت أضعف من أن تمنع حدوث العنف الجنسي في العديد من الحروب التي اندلعت منذ منتصف التسعينات.” كما أوردت دورية وُمِن أي نيوز بتاريخ 9 يونيو 2005، علي لسان احد الخبراء الدوليين في مجال حقوق الإنسان.
وأثار نفس المصدر المذكور أعلاه، ظاهرة خطيرة مفادها أن المغتصبون آلات قتل بشرية يجب الحذر منها. ذكرت “وُمِن أي نيوز” ظاهرة طبية خطيرة مفادها أن معظم المغتصبين يعانون من ارتفاع معدلات الإيدز، خاصة في إفريقيا كما تقول نادوري، احدي المحررات بالدورية الالكترونية السابقة. فقد ذكرت أن معدلات حاملي فيروس اتش أي في، في بعض الجيوش الإفريقية، تصل إلي 80%.
حالة دارفـور…الاغتصاب سلاح حرب
علي الرغم من أن الحرب التي تدور سجالاً في دارفور، بين فصائل مسلمة، تتمتع بنفس حقوق المواطنة، إلا إن مجريات الأمور والمعلومات الواردة من المنظمات الدولية، تضعها في مصاف الحرب البوسنية الصربية. تتضارب المعلومات الواردة عن الإقليم حول طبيعة الصراع بين الحكومة السودانية وحركتي العدل والمساواة وتحرير السودان.
ف في الوقت الذي تدعي فيه منظمتي هيومن رايتس ووتش و أطباء بلا حدود علي وجود اضطهاد عنصري واستعلاء قبلي واغتصاب جماعي بغية إفراغ الإقليم من سكانه، تؤكد بعض المنظمات الغربية خلاف ذلك. الأمم المتحدة التي اعتبرت الاغتصاب سلاح حرب في دارفور، تفيد تقاريرها الواردة، بان الحملة التي تشنها المليشيات المحلية الموالية للحكومة والجنجويد، تهدف إلي إرهاب السكان وإضعافهم ولكنها لا ترقي لمستوي التطهير العرقي.
في الوقت الذي يجمع فيه الكل علي وجود “مأساة إنسانية” في الإقليم ناتجة عن النزاع المسلح بين المتمردين والقوات الحكومية في العامين المنصرمين.
الدكتور حسين الجزائري المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أثناء زيارته لمدينة الجنينة في غرب إقليم دارفور، وفي تصريحات خاصة لموفد شبكة إسلام أون لاين إلى دارفور نفي تناول التقارير المرفوعة من قبل العاملين بالمنظمة لأي شكل من أشكال التطهير العرقي أو أعمال الإبادة جماعية أو الاغتصاب الجماعي للنساء، خلافاً لادعاءات منظمات حقوق الإنسان الغربية. ولكن الجزائري لم ينفِ أو يؤكد وقوع حالات اغتصاب فردية.
وأضاف الجزائري قائلاً: (ان) “المشكلة الأساسية التي أمامنا الآن هي مشكلة إنسانية بسبب الوضع الصحي للنازحين. ثم إن الوضع في دارفور لا يختلف كثيرا عن باقي أنحاء السودان التي تعاني من مشكلة تنموية، مثلها مثل باقي أرجاء القارة الإفريقية”.
وختم حديثه باتهام بعض الجهات السياسية التي لم يسمِها بالسعي إلي إدانة السودان بأي ثمن وليس أمامها سوي الادعاءات بوجود أعمال ابادة جماعية وتطهير عرقي في دارفور.
ما بين التصريحات الرسمية والدولية..الحقيقة الضائعة
اعترفت الحكومة بطريقة خجولة بإمكانية وجود اغتصاب في دارفور. جاء ذلك علي لسان الدكتور مطرف صديق وكيل وزارة الخارجية، الذي لم ينف حالات الاغتصاب. ” هناك إمكانية حصول اغتصاب ولا انفي عدم حدوثه. بل يجب أن نتفق علي تشكيل لجنة تعمل علي تقصي الحقائق حوله.” جاء ذلك في الندوة التي أقامها مركز دارسات السلام والتنمية التابع لجامعة جوبا بالتعاون مع مركز دراسة المرأة، بعنوان: حول قضية النساء في دارفور، وذلك في سبتمبر من العام الماضي.
و يعترف كذلك تقرير آخر، صادر عن الحكومة السودانية حول الممارسات الوحشية في دارفور بحدوث أعمال عنف ضد النساء. إلا أن الناطق باسم وزارة الخارجية، جمال إبراهيم، أعلن في مقابلة معه أن التقديرات حول عمليات الاغتصاب في دارفور مبالغ فيها إلى درجة كبيرة. ووصف منظمات حقوق الإنسان باختلاق القصص لإيجاد المبرر لتدخلها.: “لابد أن تبرر منظمات حقوق الإنسان ومجموعات العون عملها بطريقة ما(…). إذا كانت هذه العمليات قد حدثت بالفعل، تبقي حالات معزولة. لان هذا النوع من الأعمال بعيد كل البعد عن ثقافتنا”. كما نوه بذلك.
وفي تطورات لاحقة، جاء احد التقارير داحضاً لكل البيانات الرسمية. بحصوله على المساندة الكاملة من الأمم المتحدة. ذكر التقرير، أن أكثر من 80 في المائة من الضحايا قالوا إن المهاجمين كانوا من الميليشيات أو الجنود. غير أنه لم يحدد عما إذا كان ذلك يشمل الفصائل المتمردة أم لا.
تلاه تقرير آخر رفعته منظمة أطباء بلا حدود، نشر في مارس آذار الماضي ذكر انه تمت 500 حالة اغتصاب على مدى أربعة أشهر ونصف الشهر في دارفور. ولم ترد الإشارة إلي إن كان هذا الرقم وسط السكان الفارين البالغ عددهم 1،6 مليون أو المقيمين أو الاثنين معاً. علماً بان سكان دارفور لا يتجاوز عددهم ستة مليون نسمة. يعد الإحصاء الذي قدمته أطباء بلا حدود، هو الإحصاء الوحيد المتاح. وفي الوقت الذي تدعي فيه المنظمة أنها تملك أدلة علي حدوث حالات الاغتصاب خلال الفترة المذكورة، تصر حكومة الخرطوم علي أن التقرير زائف. وذلك حسب إفادة النائب العام السوداني محمد فريد، الذي صرح بان السلطات السودانية طلبت مراراً من المنظمة تقديم الأدلة التي استند إليها التقرير لكن المنظمة رفضت. مما جعل السلطات السودانية تخلص إلي زيف التقرير ومجانبته المصداقية. جاء ذلك في التصريح الذي أدلي به النائب العام إلي، وكالة رويترز للأنباء، في مايو الماضي، عقب قيام السلطات السودانية باعتقال ممثل المنظمة في الخرطوم.
لا ينكر إلا مكابر الدور العظيم الذي تلعبه منظمات حقوق الإنسان في إيصال خدماتهم إلي مناطق قد يتعذر علي أصحاب الشأن، في البلد المعني الوصول إليها. معلوم أن دورها في الوقت الراهن لم يقتصر علي تقديم المساعدات الإنسانية للفئات المتضررة في مناطق الحرب بل امتد إلي محاولة ملاحقة الجناة ومن يثبت تورطهم في أعمال العنف الجنسي ضد النساء.
ضحايا العنف الجسدي في دارفور…غياب الإحصائيات الدقيقة
يجب الأخذ في الاعتبار أيضا، عدم وجود إحصاء دقيق محايد، يمكن الاعتماد عليه، في معرفة الرقم الحقيقي لضحايا الاغتصاب في ذلك الإقليم النائي. فالأرقام المتوفرة حالياً، هي إما إحصاءات أو بيانات لدي المنظمات الدولية تدحضها الحكومة السودانية بشدة. مثلاً في الأربعة اشهر والنصف الأخيرة، رفعت المنظمات الدولية الرقم إلي خمسمائة امرأة، بينما لم تقدم الحكومة أي بيانات أولية بإعداد النساء اللائي تعرضن للاغتصاب في دارفور.
هناك أرقام تقديرية أخري، وردت في تقرير حديث للأمم المتحدة، تم عرضه كدليل على عمليات الاغتصاب المنظمة خلال العامين الماضيين من عمر النزاع. ذكر التقرير انه اغتصبت امرأة في وادي تينا أربعة عشرة مرة من قبل عدة رجال، في يناير/ كانون الثاني الماضي قبل عامين وفي مارسن/آذار الماضي من العام الماضي، اختطف مائة وخمسون جندياً ورجال ميليشيا ستة عشر فتاة في كتم، واغتصبوهن. و يُشاع كذلك أن فتيات صغيرات لم يتجاوزن العاشرة من العمر، اغتصبهن رجال الميليشيات في منطقة كيلك.
أما في الخرطوم وفي استباقها مع الزمن الذي بدأت عقاربه في العد التنازلي نحو المساءلة الدولية، عمدت الحكومة إلي تشكيل محكمة وطنية لمحاكمة الجناة والمتورطين في أحداث دارفور وأدرجت بين قضاتها الثلاثة، قاضي امرأة لمعاملة الحالات الخاصة بالنساء. بدأت هذه المحكمة في مزاولة نشاطها قبل أسبوعين، في منطقة نيالا في إقليم دارفور.
ضرورة الخروج من عنق الزجاجة
بعيداً عن السياسة، فان حاجة المرأة في دارفور إلي الرعاية والحماية، مازالت كبيرة. اتفقت مجموعة كبيرة من المثقفين السودانيين الحكوميين منهم والمستقلين من الجنسين علي ضرورة توفير الرعاية والحماية والتدريب والتأهيل للنساء في دارفور لمواجهة أوضاعهن المستقبلية..
الكاتب الصحفي عبد الله آدم خاطر أوضح أن المرأة السودانية تحتاج إلي المناصرة والدفاع عن كرامتها. مضيفاً أن اعتراف الحكومة بقضية اغتصاب النساء في دارفور، يجب أن يعزز بالشفافية في تمليك الحقائق للرأي العام.
ويرى خاطر ضرورة معالجة مفاهيم وقضايا الأزمة وضرورة الخروج من عنق الزجاجة بمعاقبة الجناة. وأشار إلي أهمية حل الأزمة بدون انفعال للوصول إلي الرأي الأنسب و سرعة تقديم المتورطين إلي العدالة، خاصة وان عملية الاغتصاب سلوك اجتماعي خطير جداً ودخيل علي المجتمع السوداني.
الأستاذة سارة أبو، ممثل المفوضية العليا في السودان، شددت علي دور المنظمات ومراكز دراسات المرأة وحقوق الإنسان في معالجة المحنة التي تعاني منها النساء. وأضافت انه لابد من تضافر كل الجهود لوضع اللبنات الأولي في تغيير وتقويم وضع النساء في دارفور. وأشارت أبو إلى أن 80% من النساء في دارفور يقمن بأعمال شاقة من أجل كسب العيش ولا توجد موازنة بينها وبين الرجل، فهي المنتج والرجل هو المستهلك. وأشارت أبو إلي أن هذا الوضع يتطلب وضع استراتيجية لجمع المعلومات وتقييمها في إطار الظرف الراهن ثم وضع المعالجات الضرورية لهذا السلوك.
وتضيف الأستاذة أبو بأن الفقر وتدني التعليم سبب من أسباب الكوارث في دارفور.
“الجنجويد الصغار”… نُـصُب الحرب التذكارية الحية
إن حاجة النساء إلي التسليح بالعلم والمعرفة والتمكين، لا تقل عن حاجتهن إلي الغذاء والكساء والمأوي. خاصة في ظل الأوضاع المأساوية الراهنة، التي انتزعتهن من مراتع صباهن ومضارب قراهن وحولت الكثيرات منهن أمهات عازبات في سن المراهقة، وأثقلت كاهلهن بحمل أوضاع جديدة…
في حالة وجود طفل، تتراجع مأساة الأم الصبية، وتأتي في المقدمة مأساة الطفل الكبيرة. في مجتمع منغلق، مثل مجتمع دارفور، غالباً ما يكون الطفل مكروهاً من مجتمع الأم، الذي إما أن يعلن عداءه الصارخ علي الوليد، باعتباره ثمرة علاقة محرمة، فرضت علي الأم فرضاً تحت ظروف خاصة لم تكن قادرة فيها علي الدفاع عن نفسها، أو يقبله علي مضض متحيناً الفرصة المناسبة للتخلص منه..
إن التغاضي عن مسالة بناء مستقبل الطفل العلمي وتامين الحياة الكريمة له، لن تخفف من وقع مشكلة نسب هؤلاء الصغار الذين لا يتوقع ظهور والد واحد منهم للمطالبة باسترداد ابنه.. لذلك، ليس من المتوقع أن تجد الدعوة بعدم اخذ هؤلاء الصغار بجريرة آبائهم، أذنا صاغية، خاصة وان رحى الحرب الدائرة، ما زالت تؤجج في النفوس أن كل ما هو شمالي أو عربي يشير إلي الجنجويد..
ومما يزيد في تأزم الوضع المستقبلي للطفل ويزيده تعقيداً وجوده وحيداً في مواجهة المجتمع الذي يخضع كل تصرفاته، في مراحله العُمْرية المختلفة، إلي الملاحظة والمراقبة والحكم عليه من خلال إحساسه القديم، تجاه والده المجهول..
ليديا بولغرين الباحثة والكاتبة الغربية في النيويورك تايمز، عكست في الحادي عشر من فبراير/شباط الماضي، شعور المجتمع تجاه “الجنجويد الصغار” من خلال استعراض نماذج لمعاناة النساء المستقبلية. نستعرض منها أنموذجا يعكس رؤية المجتمع للجنجويد كشواهد تذكارية حية لفترة بغيضة من حياة المجتمع لا يمكن إسقاطها بسهولة من ذاكرته.
فطومة الإفريقية الملامح تمثل النموذج الأول للأمهات المراهقات، المسرورات بأمومتهن، والمدركات قليلاً لتبعاتها المستقبلية.
“إنها ميليشيات الجنجويد”، تقول فطّومة بصوت ناعم، في إشارة واضحة إلى الميليشيات المرعبة التي روّعت سكان إقليم دارفور. وتتابع: “عندما يرى الناس بشرتها الفاتحة وشعرها الأملس، سيعرفون أنها من الجنجويد”.
تحيط الأم، ذات الـست عشرة عاماً، رضيعتها بالتعاويذ لصد الشر عنها، وتؤكد أن كل الأمور كاملة تقريباً بالنسبة لها.
“أشعر بسعادة كبيرة لكوني أماً”، قالت فطّومة وهي تحدق بابنتها، وأضافت: “سأحبها من كل قلبي”.
“ستبقى معنا الآن”، قال آدم محمد عبد الله، شيخ قرية فطّومة، وأومأ إلى الرضيعة. وتابع: “سنعاملها كواحدة من أطفالنا. لكننا سنراقبها بحذر عندما تكبر، لنرى إن كانت ستصبح مثل الجنجويد. إذ لا يمكنها البقاء بيننا إن اكتسبت سلوكهم”.
مع قليل من الرعاية والتوجيه قد تستطيع هؤلاء الأمهات بكل هذا القدر من الحب الذي يكننه لأطفالهن تجاوز نصف المحنة النفسية، واستباق النطق بالحكم الذي يبدو أن شيخ قرية فطومة قد أعده سلفاً وفي انتظار اللحظة المناسبة للنطق به.
يبدو أن المجتمع وضع أسسه المستقبلية للتعامل مع أولئك الصغار. يأتي علي راس هذه المعايير البعد عن كل ما يمت إلي الجنجويد بصلة.. وهو بذلك يضع العقدة في المنشار.
أكدت كلثوما آدم محمد، وهي إحدى القابلات التقليديات، أنها ساعدت ثمان نساء تعرضن للاغتصاب على الولادة. وقالت أنه على الرغم من اعتبار الاغتصاب تقليدياً عاراً كبيراً يلحق بالعائلة، إلا أن الاحتمال الأرجح، في سياق الحرب، هو غفران العائلات للنساء المغتصبات وقبولهن مع أطفالهن.
خلافاً لاغتصاب العراقيات الذي وثقه مرتكبوه بالكاميرا، فان مغتصبي النساء في دارفور يخشون انتقام أقارب الضحايا، مما يجعل الاغتصاب هناك، اقرب ما يكون لتفريغ الانفعالات من كونه انتقاماً أو مخطط هدفه التصفية العرقية وإفراغ الإقليم من سكانه كما يشاع. بغض النظر عن التماس الأعذار وسوق المبررات لما حدث للنساء في دارفور، يجب ألا ننسي أن المفاهيم الجديدة التي ولدتها الحرب والممثلة في رفض الوجود العربي في شمال دارفور ستحتاج الحكومات إلي بذل الجهود لإزالتها..
“بالنسبة لهم (أي للأفارقة)، كل عربي هو جنجويد”، قال أحد موظفي الصحة الأجانب ممن يساعدون ضحايا الاغتصاب في منطقة الجنينة بإقليم دارفور.
حرب المآسي…صراع البقاء
تلخص الباحثة منال حمد النيل، بمركز أمان، العواقب الوخيمة المترتبة علي اغتصاب النساء في الآتي – وصمة العار والنبذ الاجتماعي، الذي قد يلازم هؤلاء النسوة مدي الحياة. ثم إن تجربة الاغتصاب يكون في الغالب من عواقبها الحمل وما يترتب عليه من مشاكل طبية وصحية وعقلية، مضافاً إليها وجود الأطفال كضحايا للنزاع والصراع القبلي والزيجات المبكرة. كما أن هناك احتمال ازدياد العائلات التي تترأسها الإناث وفي إطار الموارد الشحيحة وانعدام الأمن الغذائي تتعرض أيضا النساء اللواتي ليس لديهن أزواج للاذي والاستغلال، ويزداد احتمال تعرضهن وأطفالهن لأمراض سؤ التغذية ويقل احتمال تحصيلهم العلمي. وغالباً ما تدفع الظروف المعيشية الصعبة العديد من هؤلاء النساء أو بناتهن إلي ممارسة الرزيلة للبقاء علي قيد الحياة.
فقاعة الاغتصاب الإعلامية…
لماذا يتخذ الاغتصاب فقاعة إعلامية تثار لفترة زمنية معينة، ثم تتلاشي بنفس السرعة التي أثيرت بها، علي الرغم من وجود الأطفال كحقيقة دامغة علي ما حدث؟
تجيب غريس هالسيل في تقرير أعدته للواشنطن عن شؤون الشرق الأوسط، في ابريل مايو 1993-1994 جزئياً علي ذلك التساؤل، باعتبار أن استلاب النساء يقع في إطار كيفية ذهاب الغنائم إلي المنتصر. وهذا يعني أن الاغتصاب حتمية لابد من وقوعها عند دخول أي مدينة…
إذا أمام المحتل مشهد يلعبه وعلي من يطلقون علي أنفسهم ثواراً استغلال ذلك السيناريو.
في الواقع فان الكيفية التي تتناول بها العناصر المتصارعة حادثة اغتصاب النساء لا تزيد علي عن كونها كارت مزايدة سياسي، يستخدمونه في الوقت الذي يرونه مناسباً ويلقونه جانباً عند الفراغ منه. المرأة فقط هي الضحية التي يغيبونها عند انتفاء الحاجة إليها ويضعونها في بؤرة الأحداث، عند ما يريدون. أما المتابعة اللاحقة، بإقامة المراكز الاجتماعية، لإيواء النساء المتضررات أو الدورات التأهيلية في لتوفير العلاج النفسي أو توفير الرعاية الصحية، فتلك أضغاث أحلام تستوجب الغُسْـل.
حليمة محمد عبد الرحمن من الرياض