الحضارة ذاكرة! والشعوب التي تحتفظ ذاكرتها بكبريات العبر لا تموت. إنها تتعلم من تاريخها كل يوم؛ تتجنب أخطاءها وتراكم على النجاحات التي حققتها.
واللحظات الفارقة لا تتكرر في تاريخ الأمم والشعوب كل يوم، ومن التجارب الجزئية يكتب التاريخ الكلي، وتنقح رواياته. كتابتي عن الرئيس محمد ولد عبد العزيز وعن بعض التجارب التي عشت معه في سنين خدمتي بالقصر الرئاسي، مزيج من الوفاء لرجل دولة عملت في إدارته، وصون لجزء من الذاكرة كنت شاهدة عليه.
أتاحت لي فرصة العمل مع الرئيس عن قرب الاطلاع على بعض الملفات، وحضور لحظات فارقة، عايشت فيها رئيسا تثير مواقفه جدلا كثيرا، وتترك دويا، "كأنما تناول سمع المرء أنملُه العشر"!
•بداية المشوار
لم أنل مكاني في القصر بواسطة أحد غير الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولذلك لم أجد نفسي مدينة لغيره، وللوطن. كنت حين لقائي الأول بالرئيس أعمل في إحدى أهم القنوات العربية، وحين دعاني فخامته للمشاركة في جهود احتضان موريتانيا للقمة العربية، لبيت الدعوة شغفا لتجربة الجديد، ولم يكن في نيتي مغادرة العمل الذي أعمل فيه.
كان استقبالي في القصر من فخامة الرئيس بداية مشوار جديد من التفكير. لمست في الرئيس محمد ولد عبد العزيز إيمانا بقدرات الشباب الموريتاني وإمكاناتهم في النجاح والتميز، وطلب مني بشكل شخصي المشاركة في قيادة العمل الإعلامي للقمة، آخذا بعين الاعتبار جميع وجهات نظري في التغطية وفي المتابعة وفي الدعاية العامة للقمة ولبرنامج الضيوف العرب في العاصمة قبل انعقاد القمة، وكان فخامته طوال هذه الفترة يتابع كل التفاصيل باهتمام ويشتغل على كل نقطة بكل تفاصيلها، مظهرا إلمامه الكبير بحساسية كل ملف إعلامي وكيف يجب تسييره في ظل طبيعة الجامعة العربية وطبيعة المحاور داخل العمل العربي والموقع الموريتاني من العمل العربي المشترك .
بعد القمة العربية وبعد نجاح موريتانيا في احتضان القمة، طلب مني فخامته العودة للوطن والعمل معهم في الرئاسة، واتكالا على الله قدمت استقالتي من عملي وعدت لوطن لتبدأ مرحلة جديدة من العمل.
•الخطابات الرئاسية
تعتبر الخطابات الرئاسية حدثا سياسيا ووطنيا في حد ذاته، لما تتضمنه في العادة من إفصاح عن توجهات الدولة في مرحلة ما، أو ما تكشفه من حقائق وملابسات بشأن أحداث وطنية، ولذلك فإن الهدف منها ليس استعراض مهارات إنشائية للطاقم الرئاسي، وقد حببت اللغة العربية إلى قلب الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وحببت إليه الخطابة بها.
وأذكر أن الرئيس انحاز إلى رأيي بعد نقاش طويل بين الطاقم المكلف بكتابة خطابات الرئيس، وفضل اللغة السهلة، القادرة على إيصال المعاني إلى المتعلمين وغير المتعلمين.انحاز الرئيس إلى اللغة السهلة، مهما كانت المناسبة ومضمون الخطاب.
•الرأي المخالف
غالبا ما كان بعض الطاقم الرئاسي يوصي بتجنب مخالفة الرئيس في الرأي، أو تنبيهه إلى بعض الأخطاء التي يقع فيها، أو التي من المحتمل أن يقع فيها أثناء الخرجات الإعلامية. ومن باب الشهادة بالحق فقد عملت بعكس هذه الوصية مرارا، وشجعني ما لقيت من تجاوب فخامته مع المقترحات والتصحيحات.
أذكر أن قرارا اتحذ في غيابي بالتعليق على أحد الأحداث في جولة للرئيس، أو زيارة لأحد المرافق، واقترحت بدلا من ذلك عقد مؤتمر صحفي تدعى له وسائل الإعلام الوطنية، وعدل الرئيس عن القرار الأول لصالح رأيي.
حدث هذا عدة مرات، حتى بت مقتنعة أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتقبل الرأي المخالف بصدر رحب، ويتنازل عن رأيه بكل أريحية حين يعتقد بصواب الرأي المخالف.
•عفوية الإنسان
لا أذكر عدد المرات التي رأيت فيها الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتصرف بتلقائية وعفوية عجيبة.
ضمن أسفاري مع رئيس الجمهورية كان السفر إلى غامبيا، حين لعلع الرصاص في السماء وخيم شبح الموت، وأحاطت المخاطر بجاليتنا في البلد الشقيق، قرر فخامة الرئيس أن يضع حدا للحن الجنائزي ولموسيقى الموت التي بدأت تعزف هناك.
وصلنا غامبيا في عز الظهيرة وكانت الشوارع تعج بالعتاد والجنود وكأنها ساحة حرب، ودخل الرئيس في لقاء مغلق مع نظيره الغامبي دام أكثر من ثلاث ساعات.
وفيما كنا نتحضر لأداء صلاة المغرب خرج رئيس الجمهورية ليتوضأ معنا في نفس المكان ويصلى المغرب، ثم عاد ليستأنف الاجتماع مرة أخرى مع يحيى جامي، ولم ينتهِ الاجتماع المغلق وزيارتنا لغامبيا حتى كانت الأزمة قد حُلت.. وحقنت الوساطة الموريتانية الدماء، وأوقفت نذر الحرب في المنطقة، ووضعت غامبيا على خط التداول السلمي على السلطة.
إن تجربة العمل مع فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز تجربة فريدة وغنية بالمواقف الإنسانية التي تطبعها التلقائية، ومنها خرجت بقناعة راسخة أن الرجل يؤمن بموريتانيا إيمانا لا يشابه غيره، كما أن لديه قدرة هائلة على امتصاص التناقضات التي يعج بها المشهد الوطني والدولي، ويملك مقدرة فريدة على استنباط الفروق الدقيقة في المواقف والحساسيات.
سعدت كثيرا بتجربة لا يمكن أن توفى حقها في مقال، وقد تتاح الفرصة للحديث عن مشاهداتها الواقعية ورواية القصص التي لا تقبل التأويل في شهادتها على نواحي التميز والقوة في شخصية الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وعلى إيمانه بشباب موريتانيا ونسائها، وبطاقات الإنسان الموريتاني عموما.
وسيخلده التاريخ كواحد من أكثر القادة تأثيرا في تاريخ موريتانيا، ومن أكثرهم إيمانا بقدرتها على المساهمة في إقامة عالم متصالح مع ذاته، يعلي قيمة الإنسان، ويسعى للبناء، والنماء.
بعد أيام؛ وفي لحظة تاريخية سيغادرنا الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولا شك أنه كأي رئيس حكم بلاده في فترة عصيبة ولمدة تزيد عن عقد من الزمن سيترك وراءه الكثير من المعجبين، والأوفياء وسيترك مثلهم من الناقدين، وربما الخصوم، ولكنه ترك بينهم وفية لتجربة إنسانية، ووطنية وعملية، جمعته وإياها على مدى سنين من حكمه، هي آسية عبد الرحمن.
ملاحظة/ العنوان الاصلي للمقال : (في وداع الرئيس الاستثنائي)