
حتى لا يكون مسارَ تَدهورٍ إجباري
------------------------------------
اكتشفَ سيدي ولد احمد ديه، خلال عمله مفتشاً للضرائب في أواخر السبعينيات، وجودَ تهرّب ضريبي يصل نحو 105 ملايين أوقية، وهو مبلغ كبير في وقته. ويتعلق الأمر بشركات خاصة استطاعت التهربَ من تسديد الضرائب المستحقة عليها بتمالئ مع موظفين في إدارتي الضرائب والخزينة العامة. لكن مسؤولين في قطاعات التجارة والعدل والمالية أرادوا الكيدَ لولد أحمد ديه ومعاقبتَه، فكتَب رسالةً إلى رئيس الجمهورية المختار ولد داداه.
يقول ولد أحمد ديه في مذكراته «قصتي مع الفساد»: «وبعد وصول رسالتنا إلى الرئيس المختار ولد داداه، استدعى وزيرَ الدولة لشؤون السيادة الوزير أحمد ولد محمد صالح، وقال له حرفياً: عليكم أن تعرفوا أن المفتش سيدي ولد أحمد ديه قام بجهد وطني من أجل كشف هذا الفساد الكبير، وعليه فيجب توقيف أي إجراء يستهدفه مهما كانت طبيعته». ويضيف ولد أحمد ديه: «في أعقاب ذلك، أرسل لي رئيس الجمهورية الأستاذ المختار ولد داداه رسالةَ تهنئة تم بَثُّ نصها عبر الإذاعة الوطنية، كما تم نشرها في جريدة الشعب». وفي الوقت ذاته، فقد أقال الرئيس كلَّ المسؤولين المتورطين في عملية الفساد وفي محاولة الكيد لولد أحمد ديه، وأمر بمقاضاتهم جميعاً وعلى الفور. وحول هذه النقطة يقول ولد أحمد ديه: «ولتعزيز قدرات وكيل الجمهورية، طلب الرئيس المختار ولد داداه من وزير العدل اكتتاب محام من سلك المحامين في دكار، وذلك من أجل مساعدة وكيل الجمهورية.. فقد كان المرحوم المختار ولد داداه حريصاً على التحقيق العادل في هذا الملف».
حادثة سيدي ولد أحمد ديه تعيدها إلى أذهاننا هذه الأيام رسالةُ الاستقالة التي بعثها مؤخراً إلى وزارة الصحة مديرُ المعهد الوطني لأمراض الكبد والفيروسات، البروفسور المصطفى ولد محمدو، والتي بيّن فيها الأسبابَ الموضوعيةَ لاستقالته، وعلى رأسها تهاون الوزارة في توفير الأجهزة والأدوية الضرورية لعمل المعهد، وتأخرها المتكرر في تسديد مستحقات موظفيه وحوافزهم، بالإضافة إلى امتناعها عن التجاوب مع طلبات عديدة لإبرام اتفاقات مهمة مع مراكز بحثية وهيئات صحية أوروبية وأميركية كان مِن شأنها وقفُ انتشار فيروس الكبد «بي» المتفشي في البلاد، مقابل مساهمة رمزية من الجانب الموريتاني. وهذا في الوقت الذي تنفق فيه الوزارة مئات ملايين الأوقية على ملتقيات ومقتنيات كثيرة أقل أهميةً وأقل أولويةً بكثير، مما جعلها عرضةً للاتهام بالاستهتار وعدم الاكتراث لصحة المواطنين وللحفاظ على سلامتهم من فيروس ينتشر ويقضي سنوياً على آلاف الموريتانيين.
وبطبيعة الحال، فثمةَ فارقٌ نوعي بين الفساد بصورتيه في الحالتين، أي الفساد في قطاع الضرائب والفساد في قطاع الصحة، إذ يتعلق أولهما بالمال الذي يمكن استرداداه أو تعويضه في أي وقت أو حتى الاستغناء عنه.. بينما يتصل ثانيهما بحياة الناس وأرواحهم الثمينة التي لا يمكن استردادها ولا تعويضها على أي نحو.
ومع هذا، فمن الجيد والمفيد للغاية أن نرى ردةَ فعلٍ رسمية على رسالة استقالة البروفسور المصطفى ولد محمدو، تتضمَّن تهنئتَه وإقالةَ ومعاقبةَ كلِّ المسؤولين عما أشارت إليه الرسالةُ مِن تقاعس واستهتار ولا مبالاة.. حتى لا يَحكم التاريخُ بأن ماضينا دائماً أفضل من حاضرنا، وبأن مسارَنا عبر التاريخ مسارُ نكوصٍ وتراجع وتدهور إجباري قسري لا مفرَّ منه!
من صفحة/ محمد المنى على الفيسبوك
