أخيرا أعلن حزب تواصل عن ترشيحه لرئيس الحزب السيد حمادي ولد سيدي المختار، وبهذا الإعلان يكون قد أصبح من الممكن تقديم قراءة استشرافية أولية لطبيعة التنافس في رئاسيات 29 يونيو 2024.
بدءا يمكن القول بأن الانتخابات الرئاسية القادمة ستشهد أقوى منافسة على الرتبة الثانية، بين ثلاثة من مرشحي المعارضة، وربما تكون هذه هي ميزتها الأبرز، حيث سيقاتل كل واحد من أولئك المرشحين الثلاثة سعيا لانتزاع تلك المرتبة، ولكل واحد من هؤلاء الثلاثة أكثر من دافع لأن يُقاتل انتخابيا ـ وبشراسة ـ من أجل أن يحظى بالمرتبة الثانية.
تواصل والدفاع عن زعامة المعارضة
منذ أكثر من عقد من الزمن وحزب تواصل يحتل زعامة المعارضة، وكانت البداية في انتخابات 2013 حيث استغل الحزب مقاطعة حزبي التكتل وقوى التقدم لتلك الانتخابات، فجاءته بذلك زعامة المعارضة على طبق من ذهب، وقد استطاع من بعد ذلك أن يحافظ عليها في موسمين انتخابين متتاليين شاركت فيهما جميع أحزاب المعارضة (2018 و2023)، حتى وإن كانت نتائجه في انتخابات 2023 جاءت دون نتائجه في انتخابات 2018.
في الانتخابات الرئاسية القادمة سيدافع حزب تواصل وبشراسة عن لقب “زعامة المعارضة”، ولكنه هذه المرة لن يدافع عن هذا اللقب من ملعب الانتخابات البرلمانية، ذلك الملعب الذي أصبح حزب تواصل يجيد اللعب فيه، وإنما سيدافع عنه هذه المرة من ملعب المنافسات الرئاسية، والذي كان آخر عهد للحزب باللعب فيه من خلال الدفع بمرشح داخلي في العام 2009، ولم تكن نتائجه حينها مشجعة ( حيث حصل مرشح الحزب محمد جميل منصور على الرتبة الرابعة، وبنسبة لم تتجاوز 4.76 %).
اليوم سينافس حزب تواصل على الرتبة الثانية في رئاسيات 2024، وبذلك سيحاول أن يؤكد للجمهور السياسي أنه جدير بحمل لقب زعامة المعارضة، حتى وإن كان سيظل محتفظا بذلك اللقب مهما كانت نتيجته في الانتخابات الرئاسية القادمة.
صحيح أن نتائج الانتخابات الرئاسية لا تأثير لها بشكل مباشر على زعامة المعارضة، والتي يُتحصل عليها من خلال الانتخابات التشريعية، ولكن الصحيح أيضا أن أحقية الحزب بزعامة المعارضة، وجدارته بحمل ذلك اللقب، ستصاب معنويا في مقتل إذا لم يتمكن رئيس الحزب من انتزاع الرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة، وللحزب نقطة قوة ستمكنه من أن ينافس بشكل جاد، وتتمثل نقطة القوة تلك في وجود “بنية تحتية” جاهزة لخوض الانتخابات الرئاسيات، فحزب تواصل هو الحزب المعارض الأكثر انتشارا في موريتانيا، كما أن ترشيح رئيس الحزب سيساعد في تحصين الحزب من المزيد من التفكك، هذا فضلا عن كونه سيمكن المعارضة من الحضور بمرشح في منطقة الشرق ذات الكثافة السكانية، وذلك بعد أن غابت تلك المنطقة عن خريطة ترشيحات المعارضة المعلنة حتى الآن، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحزب سيواجه بعض التحديات الصعبة، والتي عليه أن يتغلب عليها لضمان الحصول على الرتبة الثانية، ومن تلك التحديات :
1 ـ أن الحزب لم يكن مهتما بالانتخابات الرئاسية، وكان ملفها يأتي دائما في خانة الملفات الثانوية للحزب، فهو لم يكن يخطط لخوض هذه الانتخابات بمرشح من داخله، ولكن إكراهات اللحظة الأخيرة أجبرته على ذلك. من المؤكد أن عدم التحضير المبكر، وعدم التخطيط المسبق لخوض الانتخابات بمرشح من داخل الحزب، سيكون لهما تأثيرهما السلبي، ومع ذلك فيمكن للحزب أن يواجه تلك التحديات إن هو استغل بنيته الانتخابية التحتية الجاهزة مسبقا أحسن استغلال؛
2 ـ من التحديات كذلك غياب الخبرة في خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح من داخل الحزب، فآخر عهد للحزب بتقديم مرشح من داخله كان في انتخابات 18 يوليو 2009، أي قبل خمسة عشر عاما تقريبا؛
3 ـ أن تواصل سيخوض هذه الانتخابات بعد أوسع موجة من الانسحابات شهدها الحزب منذ تأسيسه وحتى الآن، ويكفي أن نعرف أن رئيس الحزب السابق ونائبه، ورئيس مجلس الشورى السابق، وشخصيات قيادية كثيرة أخرى لن تصوت هذه المرة لمرشح الحزب. كما أن موجة هذه الانسحابات شملت أيضا شخصيات كانت تعتبر من أبرز ممولي حملات الحزب؛
4 ـ من المؤكد أن دخول مشروع ” جبهة المواطنة والعدالة” الذي يقوده الرئيس السابق لحزب تواصل في الحملة الانتخابية لصالح المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني سيكون له الأثر السلبي على تماسك القاعدة الشعبية للحزب.
زعيم إيرا والدفاع عن لقب الرتبة الثانية
سيدخل المرشح بيرام هذه الانتخابات بروح قتالية شرسة دفاعا عن المرتبة الثانية، والتي نالها لأول مرة بضربة حظ وبنسبة 8.6% في رئاسيات 2014، مستغلا بذلك مقاطعة المعارضة لتلك الانتخابات، كما استغل تواصل من قبله مقاطعة بعض أحزاب المعارضة لانتخابات 2013 التشريعية والبلدية لينال زعامة المعارضة.
ثم نال من بعد ذلك المرشح بيرام، وللمرة الثانية، الرتبة الثانية في رئاسيات 2019، وقد نالها هذه المرة بجدارة واستحقاق في انتخابات شارك فيها الجميع، كما نال حزب تواصل زعامة المعارضة بجدارة واستحقاق في انتخابات 2018.
بالفعل، تمكن زعيم إيرا وفي ظل منافسة شرسة مع المرشح سيدي محمد ولد بوبكر أن ينتزع الرتبة الثانية في رئاسيات 2019 وبنسبة 18.58%، ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه النسبة هي أعلى نسبة يحصل عليها المرشح الفائز بالرتبة الثانية في كل الانتخابات الرئاسية التي نُظمت في بلادنا من بعد انتخابات 2007، ففي تلك الانتخابات تمكن الفائز بالرتبة الثانية الزعيم أحمد داداه من أن يحصل على 20.68% في الشوط الأول.
إن انتزاع زعيم إيرا للرتبة الثانية في آخر انتخابات رئاسية شارك فيها الجميع، وبنسبة معتبرة، جعلته يُصنف نفسه ـ وله الحق في ذلك ـ على أنه هو المنافس الحقيقي والجدي لمرشح النظام.
لقد كان هذا التصنيف حاضرا ـ وبقوة ـ في خطابات زعيم إيرا خلال السنوات الخمس الأخيرة، واليوم يجد المرشح بيرام نفسه في معركة مصيرية للحفاظ على ذلك التصنيف أو خسارته بشكل نهائي. من المؤكد أن المرشح بيرام سيقاتل بشراسة للحفاظ على لقب “المنافس الأول لمرشح النظام”، ولعل من أهم نقاط القوة التي يمتلكها بيرام في النزال القادم هي أنه كان قد دخل في الحملة الانتخابية مبكرا، فمنذ سنتين أو أكثر وهو في أجواء الحملة الانتخابية. كما أنه قد يستفيد من بعض الأصوات في مدن الضفة، وذلك في ظل غياب مرشح معارض قوي من أبناء الضفة، وكذلك في ظل إعلان “تحالف العيش المشترك” عن دعمه. هذا عن نقاط القوة، أما نقاط الضعف فهي كثيرة ولعل من أبرزها :
1 ـ أنه هذه المرة لن يحتكر أصوات الشريحة كما حدث في العام 2019، حيث غاب أي منافس له من الشريحة. في هذه الانتخابات سيجد أمامه منافسا شابا طموحا سيقاتل هو أيضا ـ وبنفس الشراسة ـ من أجل الحصول على الرتبة الثانية؛
2 ـ أنه لن يجد هذه المرة دعما ماليا سخيا من رجال الأعمال في الانتخابات الرئاسية القادمة، وذلك بعد تعامله غير اللبق مع أحد رجال الأعمال الذين دعموه بسخاء في الانتخابات الماضية. وهذا التعامل غير اللبق يعكس واحدة من أقوى نقاط ضعف المرشح بيرام، وهي أنه “شريك غير مؤتمن”، وأنه من المحتمل أن ينقلب على شركائه الداعمين في أية لحظة، وهذا السلوك المتجذر لديه سيجعل الكثير من الداعمين الكبار (ماليا وسياسيا) يترددون كثيرا من قبل أن يقرروا دعمه؛
3 ـ أنه سيخوض هذه الانتخابات بعد أن شهدت حركة إيرا موجة كبيرة من الانسحابات خلال السنوات الأخيرة، وكذلك بعد أن شهد خطابه الصدامي الذي عُرِف به تذبذبا كبيرا، وهو تذبذب بدأ “باكتشاف الصديق”، وانتهى بمجابهة “أخطر الأعداء”؛
4 ـ أنه سيخوض هذه الانتخابات بعد أن فقد الكثير من الدعم والدعاية من الدول والمنظمات الغربية؛
5 ـ أنه سيخوض هذه الانتخابات بعد خمس سنوات كان تركيز النظام فيها منصبا على الاهتمام بالفئات الهشة من خلال مندوبية تآزر، هذا فضلا عن العمل خلال السنوات الخمس الماضية على “تجفيف منابع الخطاب الشرائحي”.
العيد والطموح المبرر للرتبة الثانية
سيدخل المرشح العيد الانتخابات الرئاسية لأول مرة في مساره السياسي، سيدخلها بطموح كبير ومبرر، وسيُقاتل هو أيضا ـ وبشراسة ـ من أجل انتزاع الرتبة الثانية من منافسيْه زعيم إيرا ورئيس حزب تواصل.
سيدخل المرشح العيد هذه الانتخابات منافسا على الرتبة الثانية بشكل عام، ومنافسا بشكل خاص للمرشح بيرام على زعامة الشريحة، وستكون هذه المنافسة الثنائية بين المرشح بيرام والمرشح العيد على الزعامة السياسية للشريحة هي المنافسة الأشد شراسة في الانتخابات القادمة.
وبالعودة إلى الانتخابات التشريعية والبلدية والجهوية الماضية فسنجد أن تحالف “جود”، والذي دخل الانتخابات لأول مرة منذ تأسيسه قد تمكن من أن يُنافس وبقوة حزب الصواب على المقاعد النيابية ( اللائحة الوطنية المختلطة ـ لائحة النساء ـ لائحة الشباب)، وقد تفوق جود على الصواب في نواكشوط الجنوبية، ولذلك أكثر من دلالة، كما تفوق عليه في مجموع النواب، حيث حصل جود على سبعة نواب، وحصل الصواب على خمسة نواب فقط.
نعم من حق المرشح العيد أن يطمح للرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة، وزاده في ذلك الإطلالة اللافتة لتحالف جود في الانتخابات الماضية، هذا فضلا عن الميزات الشخصية التي يتمتع بها المرشح العيد، والتي منها أنه نائب شاب، وأنه قانوني، وأنه رئيس سابق للميثاق، هذا فضلا عن إمكانية قدرته على استقطاب الكثير من الناخبين الذين كانوا يصوتون وبشكل تلقائي للمرشح بيرام.
وبالإضافة إلى كل ذلك فقد يستفيد العيد من دعم سخي من بعض رجال الأعمال، وعلى رأسهم رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، والذي لن يدخر جهدا ماليا في سبيل تحطيم المرشح بيرام انتخابيا، فحسب ما نسمع عن رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، فإنه ينفق بسخاء كبير عندما يصادق أو يحالف ، ويحارب بقوة وشراسة عندما يدخل في صراع مع أي كان.
هذا عن نقاط قوة المرشح العيد، أما عن نقاط ضعفه فسنكتفي في هذا المقام بذكر النقاط الثلاث التالية:
1 ـ نقص الخبرة في خوض الانتخابات الرئاسية، فهذه هي أول مرة يترشح فيها العيد للرئاسيات، وللترشح الأول ميزته في جلب بعض المصوتين، ولكن له أيضا نقاطه السلبية، والتي من أهمها غياب الخبرة التي تكتسب مع تكرار التجربة؛
2 ـ الالتباس في الخطاب السياسي، والالتباس كذلك في الجمهور المستهدف في الانتخابات القادمة؛
3 ـ عدم الحصول حتى الآن على دعم كامل من تحالف “جود”، فمن بين الغائبين عن دعمه النائب كادياتا جالو والنائب يحيى اللود.
أين بقية المترشحين؟
هناك راغبون في الترشح جادون ومؤهلون للمنافسة لم يأت ذكرهم، وذلك لأنهم لن يحصلوا على تزكيات حسب ما يتم تداوله من أخبار، ولذا فقد تم تغييبهم عن هذا التحليل ذي الصبغة الاستشرافية. ربما يشذ عن هذه القاعدة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، والذي كان قد أعلن عن سعيه للترشح، وقد حصل على صحيفة السوابق العدلية (شهادة التبريز)، وربما يحصل من بعد ذلك على ما يكفي من تزكيات، ولكن مسار ترشح الرئيس السابق سيتعطل عند عتبة المجلس الدستوري على جدار المادة 28 من الدستور الموريتاني، والتي تقول : “يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة”.
هل هناك من شوطٍ ثانٍ؟
هذا السؤال يُطرح كثيرا، ويصعب أن نجيب عليه الآن بشكل قاطع، وقبل محاولة الإجابة عليه، فلابد من القول بأني من الذين يستبعدون نهائيا فوز أي مرشح معارض في الانتخابات القادمة، حتى وإن تم تنظيم شوطٍ ثانٍ، وذلك لأسباب أراها وجيهة، وقد بسطتها في الجزء الأول من مقالي السابق، والذي كان تحت عنوان :
“لا معارضة تنافس، ولا أغلبية تدعم!”.
إنني أستبعد تماما ـ وربما بشكل قاطع ـ فوز أي مرشح معارض في الانتخابات القادمة، ولكن يبقى احتمال تمكن مرشحي المعارضة من الدفع بانتخابات 29 يونيو 2024 إلى شوط ثان احتمالا واردا، حتى وإن كان احتمالا ضعيفا جدا.
يمكن لمرشحي المعارضة الثلاثة أن يحصلوا على نسبة تقترب من 50% في الشوط الأول إذا تمكن كل واحد منهم أن يحصد نسبة تتراوح ما بين (15 إلى 17)%.
ما يمكن توقعه الآن هو أن المنافسة ستكون شديدة بين هؤلاء المرشحين الثلاثة على الرتبة الثانية، وذلك مما سيساعد ـ وبلا شك ـ في حصول كل واحد منهم على أعلى نسبة يمكن أن يحصل عليها، وما يمكن توقعه أيضا هو أن هؤلاء المرشحين الثلاثة سيحصلون على الرتب (2 و3 و4) مع احتمال ضعيف جدا أن ينافسهم مرشح رابع على إحدى تلك الرتب، ومما يمكن توقعه كذلك أن الفوارق بين هؤلاء المرشحين الثلاثة لن تكون كبيرة جدا، وذلك بغض النظر عن ترتيبهم النهائي.
هذا هو المتوقع بالنسبة لي حاليا، ومن قبل انطلاق الحملة الانتخابية، ولكن سيبقى الباب مفتوحا أمام أي مفاجأة انتخابية، خاصة وأننا تابعنا في بعض دول الجوار مفاجآت انتخابية لم يكن يتوقعها أحد. هناك بالتأكيد فوارق كبيرة بيننا ودول الجوار، ولكن ذلك لا يجعلنا نلغي نهائيا إمكانية التأثر ـ ولو قليلا ـ بما جرى في بعض دول الجوار.
كيف يمكن أن يُسدَّ باب المفاجآت؟
يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يسد نهائيا باب المفاجآت في الانتخابات القادمة، باتخاذ خطوات استباقية من قبل انطلاق الحملة الانتخابية، وذلك من خلال تنفيذ بعض ما جاء في رسالته الموجهة إلى المواطن، والتي أعلن من خلالها عن ترشحه، ويمكن أن يتم ذلك من خلال:
1 ـ فتح بعض ملفات الفساد التي حصلت خلال المأمورية الماضية، ومعاقبة من كان مسؤولا عن ذلك الفساد، وذلك تنفيذا للوعد بالضرب بيد من حديد الذي جاء في الرسالة الموجهة للناخب؛
2 ـ إجراء بعض التعيينات والإقالات من قبل انطلاق الحملة، بحيث تحضر الكفاءة بشكل واضح عند كل تعيين أو ترقية، وتغيب بشكل واضح عند كل إقالة؛
3 ـ اتخاذ خطوات باعثة للأمل اتجاه الشباب؛
4 ـ التخفيف من أعباء الحياة على المواطنين من خلال تخفيض أسعار المحروقات.
تنبيه : هذه مجرد قراءة استشرافية أولية، وهي قد تحتاج إلى تحيين عندما يُعلن عن لائحة المترشحين بشكل نهائي، وكذلك عندما تبدأ الحملة الانتخابية، ويظهر بشكل واضح مدى قدرة كل مترشح على الحشد والمنافسة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل