استوقفتنى هذه القصة وأيقظتنى واندهشت عند سماعي لها وتأملها بعد نقلها إلي من أحد الأصدقاء الخيرين فأردت سردها على مسامعكم ,
ذكر هذا الشخص عن آخر أنه عاد يوماً إلى منزله من عمله وكان متعبا جدا منهكا فقالت له زوجته : هلا غيرت ملابسك وارتحت قليلا ريثما ينضج الطعام ، فاستجاب وذهب إلى غرفة نومه وغير ثيابه وتمدد على سريره ونام قليلا ،
يقول هذا الشخص : نمت ولم أستيقظ إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر فخرجت من الغرفة متوجها إلى المطبخ فوجدت زوجتي منهمكة فى إعداد المائدة ، فجلست على مقربة منها وسألتها ماذا تطبخين لنا اليوم يا حبيبة القلب ؟؟
فلم ترد علي فعاودت السؤال مرة ثانية وثالثة فتفاجأت انها لم ترد علي ، فكانت دهشتي أسبق من غضبى ، إذ أنها المرة الأولى على مدى عشرين عاماً من حياتي معها أخاطبها ولا تعيرني أي اهتمام ،
التفت فإذا بابنى يدخل المطبخ فطلبت منه إحضار كأس من الماء ، فكان جوابه مماثلا لجواب أمه فازداد تعجبي منه ،
إنه ذلك الشاب الدمث الذى يضرب به المثل فى الأدب وحسن الخلق ، فهممت بالخروج من المطبخ فإذ بزوجتى تقول لابنى اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء ،
هنا بلغ منى الذهول مبلغا فقلت فى نفسى أي أب له غيري ؟؟
وبالفعل اتجه إبنى إلى غرفتى ليوقظنى ، فناديت عليه بأعلا صوتي أنا هنا ، فلم يلتفت إلي ومضى مسرعا وتركني غارقا فى ذهولي ،
وبعد وقت عاد وقد ارتسم الرعب على وجهه ، فقالت له أمه : هل أيقظت أباك ؟؟
فتلعثم قليلا وقال لها : حاولت إيقاظه مرارا وتكرارا لكنه لم يجب ، فازدادت دهشتي مما سمعت ، ماذا يقول هذا الولد ؟؟
فدخلت زوجتي مسرعة إلى الغرفة وخلفها الأولاد مذعورين فتبعتهم لأجدها تحاول إيقاظ شخص آخر على سريري وهو يشبهني تماما ويلبس نفس ثيابى ، وما إن يئست من إيقاظه حتى بدأت عيناها تذرف الدموع وبدأ أولادي بالبكاء والنحيب ومنادات ذلك الرجل الملقي على فراشي والتعلق بثيابه أملا فى الرد عليهم ، وأنا لا أصدق ما يجري حولي ،
يا إلهي ما الذى يحدث ؟؟
من هذا الرجل الذى هو نسخة مني ؟؟
ولماذا لا يسمعنى أحد ولا يراني ؟؟
وبعد برهة من الوقت خرج ابنى مسرعا ليعود ومعه أبي وأمي وإخوتي وانهمر الجميع بالبكاء وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكانب وتبكي بكاء حارقا ، فذهبت إليها محاولا لمسها والحديث معها وإفهامها أني مازلت بجوارها إلا أنه أحيل بينى وبينها ،
فالتفت إلى أبى وإخوتى محاولا إسماعهم صوتي لكن دون جدوى ،
ذهب إخوتي لإعداد الجنازة وخر أبى مغشيا عليه يبكي وأنا فى ذهول تام وإحباط شديدين من هول ما أشاهد ،
مضى بعض الوقت وحضر المغسل وبدأ يغسل ذلك الجسد الملقى على فراشي وساعده أبنائى ثم لفوه بالكفن ووضعوه فى تابوت ،
وتوافد الأصدقاء والأحباء إلى البيت والكل يعانق أبى المنهار ويعزون إخوتي وأبنائي ويدعون لى بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان ،
ثم حملوا ذلك النعش إلى المسجد ليصلوا عليه وخلا المنزل إلا من النساء ، فخرجت مسرعا خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا عليها ،
ووسط هذا الإزدحام الشديد وجدتنى أخترق الصفوف بيسر وسهولة وسرعة مذهلة دون أن ألمس أحدا ، فلما كبر الإمام التكبيرة الأولى صرخت عليهم يا أهلي ويا جيراني على من تصلون ؟؟
أنا هنا معكم ولكن لا تشعرون أناديكم ولكن لا تسمعون بين أيديكم ولكن لا تبصرون ،
فلم يعيروني أي اهتمام ولما يئست منهم تركتهم يصلون وتوجهت إلى ذلك الصندوق وكشفت الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه ،
فلما كشفت عن وجهه فتح عينيه ونظر إلي وقال : الآن انتهى دوري فأنا إلى الفناء وأنت إلى البقاء ،
ثم قال لازمتك أكثر من أربعين سنة واليوم مآلي إلى التراب ومآلك إلى الحساب ،
فشعرت بنفسي وأنا ملقى فى التابوت فاقدا السيطرة على كل شيء أطرافى لم تعد تستيجب لى ولم أعد أرى شيئا كما لم أعد أقوى على الحراك وأحاول الكلام فلا أستطيع ،
فقط أسمع تكبيرات الإمام ثم غمغمات المشيعين ثم صوت التراب ينهال علي ثم قرع النعال مبتعدة عنى أدركت حينها أنها النهاية أو على الأصح البداية أو بداية النهاية ،
هكذا بكل بساطة ودون مقدمات مت ؟؟
ولا زال لدي الكثير من المواعيد والكثير من الأشغال والكثير من الديون التى لم أسددها ولم أوصي حتى بسدادها ،
أبهذه الطريقة البسيطة أمضي وأترك كل شيء خلفي دون برامج أو توصيات ؟؟
إننى الآن أريد أن أوصي بفعل خير لطالما أجلته ،
وأنهى عن منكر لطالما رأيته وسكت عليه ،
وشيئا فشيئا بدأت أختنق ثم سمعت أصوات أقدام متجهة إلي قلت عندها يا ويلى ما هذا ؟؟
هل سيبدأ الحساب إذا ؟؟
أهذا ما كان يقال لي فى الدنيا ؟؟
لابد أنهما منكر ونكير فى طريقهما إلي ،
وقد بقيت وحيدا أصرخ فى قبري ولا من منجد ولا منقذ ،
رب ارجعون ،،، رب ارجعون ،،، رب ارجعون ،،، لعلي أعمل صالحا فيما تركت ،، فلا أسمع صدى لدعائى سوى ,,كلا ،،، كلا ،،، كلا ،،،
و لازلت على هذه الحالة حتى تدفق إلى مسامعي صوت رقيق يهمس فى أذني : بابا, بابا, الغداء جاهز يا بابا ،،
ففتحت عيني لأجد ابنتي وفلذة كبدى مبتسمة كعادتها فى وجهي وهي تقول لى : "هيا يا بابا قبل أن يبرد الأكل"
احتضنتها بلهفة وقبلت جبينها ثم تركتها تذهب وجلست فى فراشي برهة وأنا أشعر بإرهاق شديد ، فأطرافي لازالت ترتعد وجسدي يتصبب عرقا ، عندها خاطبت نفسى قائلا : يا نفس قد عدت فأرينى أي صالح ستعملين قبل أن يأتي يوم تسألين فيه الرجوع فلا يستجاب لك ،
سارعوا بالخيرات وبالأعمال الصالحات قبل فوات الأوان والولوج داخل الظلمات ،
ف"مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"
بفضلك اللهم لا بعملي.
# منقوووول