قصة المِحزم
قصة حقيقية يرويها شيخ كبير بالسن من قبيلة مطير؛ يقول:
كنا في حدود عام 1370هـ رعاة إبل نجوب الصحراء. وصادف ذات رحلة أن اقتربت مؤنتنا على النفاذ، ونحن آنئذ بالقرب من مدينة عنيزة.
كنا مجموعة رعاة ولم يكن مع أحد منا ريال واحد، وأيضًا – لسوء الحظ – لم يكن معنا ما نقايض به؛ كأن نشتري تمرًا بسمن، أو أقطًا.
اتفق الجميع على أن أنزل وحدي إلى عنيزة، وأن ألتمس أحدًا من تجارها يقرضنا إلى حين ميسرة.
نزلت سوق عنيزة، وبدأت أتفرَّس وجوه الرجال أصحاب الدكاكين، بحثًا عن تاجر أتوسم فيه المرونة في ذلك الزمن الشحيح ..!!
هفت نفسي إلى رجل منهم ، توسمت في سيمائه الخير والمرونة، فسلّمت عليه، ثم قصصت عليه خبري وخبر جماعتي.
قال التاجر: لو كنتَ وحدك لأعطيتك ما يكفيك، ولكنكم جماعة تحتاج إلى ما لا يقل عن 40 ريالًا، وهذا يضر بتجارتي، فضلًا عن أني لا أعرفك.
احترتُ ما أقول له؛ فحجته قوية، ولا يرضيني أن أضر به، وأنا بدوي تقذفني الصحراء من فج إلى فج، ولا أدري متى سأعود إليه .. عندئذ ألهمني الله أن أذكر محزم الرصاص الذي كنت ألبسه؛ فقلت: خذ هذا المحزم، فيه 10 أمشطة، تساوي 40 ريالًا، هي لك بعها إن لم أعد بعد شهر إليك.
ارتاحت نفس التاجر؛ فقال: اتفقنا، خذ بقيمة 40 ريالًا ما شئت من التمر، وموعدنا بعد شهر: إن عدت، وإلا بعت هذا المحزم، واستوفيت ثمني منه.
أخذت التمر، وعدت إلى رفاقي، ثم – كما العادة – دفعتنا الصحراء إلى بطنها؛ فمضى الأجل الذي بيننا، وقلت في نفسي: الرجل أخذ حقه، فلتطب نفسي.
تقلّبت بي الحياة ظهرًا لبطن، فتركت البداوة، وعملت سائقًا في أرامكو، ثم صرت سائقًا يقوم بتوصيل السيارات الجديدة من الميناء إلى وكالاتها.
بعد قرابة 20 سنة ذهبت بحملة سيارات من الميناء إلى القصيم لإيصال سيارات إلى وكالة المشيقح.
كانت السيارات ذلك الزمن تحتاج إلى التبريد.. (والتبريد هو أن توقف السيارة فترة مع رفع غطاء ماكينتها حتى تبرد).
توقفنا في أطراف عنيزة لتبريد سياراتنا، ونزلت أتريض في بعض بساتينها، لقد تغيّرت عنيزة، ولك أن تتخيل ماذا فعلت الطفرة بالمدن السعودية.
فيما أنا في تلك المزرعة إذ بصاحبها يقترب مني ويسلم علي، فسلمت عليه، وأخبرته أننا مجموعة من السائقين نبرّد سياراتنا، وأني دخلت أتريض هنا.
فقال صاحب المزرعة: قل لأصحابك ألا يطبخوا شيئًا للغداء، وأخبرهم بأنّ غداءهم عندي هنا في المزرعة.
اعتذرت قليلًا فألحّ كثيرًا.
وفيما أنا أتريَّض معه في المزرعة خطرت لي قصة محزم الرصاص وذلك التاجر، فقلت له: يا عم؛ لي عن عنيزة 20 سنة، ولي فيها قصة هي كيت وكيت.
فقال الشيخ صاحب المزرعة: هل تذكر شكل التاجر؟
قلت: لا.
فقال: هل تذكر أمارةً فارقة تذكرك به؟
فقلت: بجوار دكانه نخلة.
فقال الشيخ: وصلت، وأتى الله بك فقد كنت أنتظرك، وكتبت أمرك في وصيتي، وذاك أني بعتُ محزم الرصاص بـ 50 ريالًا، وهذا هو ثمنه الحقيقي، فأدخلت العشرة ريالات لك في تجارتي، وقد نما لك منها شيء.
ثم سحبني من يدي ، وأخذني إلى فضاء واسع في المزرعة مليء بالأغنام وقال: هذه الأغنام كلها لك يا بني من عشرة ريالات قبل 20 سنة.
اعترتني رعشة من أمانته..
فقلت: لا آخذ شيئًا.
فقال: والله لا أتركك.
فقلت: النصيفة بيننا لترضى..
فقال : كما تريد، فقد أزاح مجيئك عني همًّا طويلًا.
.
العجب كل العجب من الاثنين رغم طول الأمد.
العجب من التاجر لأمانته، ومن صاحب المحزم لسخائه.
.قصة مشتهرة.
.