مأساة عبد الرحمن وأمه المريضة "خداجة"
عبد الرحمن إسمه الحقيقي ..شاب لم يبلغ الاربعين بعد ..يعيش منذ سنوات في العاصمة بعد أن ألجأه مرض والدته "خداجة" إلى العيش فيها ,حيث فرض عليها داء "الفشل الكلوي" القيام بالتصفية مرتين أسبوعيا.
خداجة لم تُنجب غير عبد الرحمن ,ولم يأتِ الا بعد صبر طويل وعناء..وزيارة الصالحين وكثرة الدعاء...بعد أن اقتربت من سن اليأس وكادت تيأس لولا أن استجاب الله دعاءها...وسمع نداءها ,لذلك كانت تحبه حبا جنونيا ,ولا تتصور وجودها بدونه...
كان يبادلها حبا بحب وعشقا بعشق..وحنانا بحنان...تزوج منذ سنوات قليلة من ابنة خاله "امَّيمَه"..الفتاة الخلوقة الوادعة ...كانت من اختيار أمه ....أنجبا ولدا وبنتا ,فكانا ريحانتيْ خداجة ..تلعب معهما كما يلعب الطفل مع أترابه...تتسلى بهما..يملآن عليها الغرفة بهجة وسرورا ...فكانت لا تُرى الا وهي راضية...مبتسمة ,تُجلس هذا في حضنها تارة ,وتلك بين سَحْرها ونَحرها تارة أخرى...تُلثم أحدهما ولا تتركه إلا لتُلثمَ الآخر..تستنشق رائحتهما بين الفينة والفينة..كأنها تستنشق الرَّوْحَ والريحان... مرت سنوات على هذه الحال...لكنَّ دوام الحال من المحال...
لا يملك عبد الرحمن من متاع الدنيا سوى سيارة 190 متهالكة...وقلبٍ قنوع , ورضى بالمقسوم.
اعتاد أن يبدأ العمل مبكرا ...
بعد صلاة الفجر في المسجد ..يدخل على أمه فيجدها منشغلة بنفسها...مع ربها...ذاكرة..مُسبحة...ينحني انحناءة تواضعٍ ..يقبل يديها ورأسَها ....يصلي ويسلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يدير محرك السيارة وينطلق على بركة الله للبحث عن رزقه ورزق أسرته...
يتجه مباشرة إلى "كارفور مدريد" يوقف السيارة ..ينادي بأعلى صوته ..أفاركو...بي أم دي...أفاركو ..بي أم دي ....وما هي الا لحظات حتى يكتمل الركاب وينطلق ...يذوب عبد الرحمن وسيارته في زحمة السير والأمواج البشرية...في رحلته اليومية الخالدة...حتى تزول الشمس عن كبد السماء ..فيعود قبيل صلاة الظهر إلى المنزل راضيَّ النفس ..مستبشرا..مبتسما...الاطفال يتسابقون إليه عندما يسمعون أزيز محرك سيارته الذي ألفوه وعرفوا كيف يميزونه من آلاف الأصوات..
يبدأ بأمه المُتلهفة لرؤيته...يقبل رأسها ويدها ...يجلس بجانبها...ثم يخرج من جيبه بعضا من الحلويات فيُناولها إياها..يبتسم...يمَّ..."هاذي فرحْتكْ انت" ..فتضحك..تُوزعها على حفيديها ..تنظر إليهما في سعادة وهما يتعاركان للفوز بهذا الصنف أو ذاك من الحلوى..ثم تدعو له...أحيانا يلحظ في جفنيها دمعا وهي تُهمهِم بكلمات خافتة...وربما أرسل يده ومسح دمعة لم تنزل بعد من المآقي...يا لَله..
بعد كل ثلاثة أيام ....كان يأخذها للتصفية ...يجلس بجانبها ..يُؤنسها ..تستأنس بقربه منها..يتبادلان النكات والطرف أحيانا إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان......
ـــــــــــــــــــــــــــ
اتصلت امّيمة تبكي وتُولول ...كان عبد الرحمن جالسا بجانب أمه..خرج مسرعا ليعرف من زوجته ما الذي حدث..وحتى لا يتسبب في إزعاجٍ أو ألمٍ للوالدة...
ماتْ....ماتْ..الكلمة الوحيدة التي استطاع سماعها في الهاتف من زوجته ...حاول أن يتمالك أعصابه ..لعنَ وساوس الشيطان..
عاد لسرير الوالدة..جلس...وقف...قعد...قام...أعاد الاتصال لعله يفهم شيئا هذه المرة...
اميمة ما تزال تبكي..سمع جَلَبةً ..أصواتا مرتفعة حولها...علِم أن الامر خطير ..والخطبَ جَلَل!!...استأذن أمه قليلا..لم يقل لها كلمة واحدة...خرج مسرعا ..لا يلوي على شيء...مئة فكرة وفكرة جالت في مخيلته...يزيد السرعة..ثم يزيدها..لم يعد يرى شيئا..أو يسمع شيئا..من المؤكد أن أطفاله ليسوا على ما يرام ..سيطرت هذه الفكرة على عقله وحواسه...وأعمت عقله قبل بصره..
ما الذي جرى..ما الذي حدث؟
لا يدري ...
ترتطم سيارته بشكل مفاجئ بشاحنة تحمل "كونتينيرات" قادمة من الاتجاه المعاكس عند أحد التقاطعات الخطيرة...
أما الزوجة المسكينة اميمة فقد كانت منهمكة في أعمال المنزل حينما سمعت صرخة شديدة من ابنها في الغرفة المجاورة ,فأسرعت إليه ,وإذا به فاغرا فاهُ , شاحبَ الوجه ,مفتوح العينين ,ساكن الحركة ,ممسكا بهاتف تركته يلهو به...
دون أن تنطق بحرف...سقطت مغشيا عليها من هول المنظر ,لكن ابنتها الصغيرة خرجت تصيح : أمي...أخي..
التفّ من حولها الجيران ,حيث تطوع أحدهم بفصل التيار الكهربائي والاتصال بالشرطة ,لكن بعد فوات الأوان.
انتهت عملية غسيل الكلى للمسكينة خداجة ..أَمرَها الممرضون بالنزول من سريرها لأن غيرها يحتاجه...
جلست على الارضية خارج الغرفة..انتظرت ولدها...لا تعرف عنه سوى أنه استأذنها...طال الانتظار...نامت على جنبها ..تعبت من الجلوس والانتظار...لم يأتِ ولدُها..
أذان الظهر ينطلق من المسجد المجاور داخل المستشفى...بدأت تقلق...تُتَمتِم بكلمات خافتة..ربما تدعو الله أن يعيد إليها عبد الرحمن...
أول شيء قام به الجيران بعد دخولهم المنزل هو نقل امّيمة وابنها ـ الذي توفي إثر صعقه كهربائية أثناء لعبه بالهاتف الموصول بالتيار ـ نقلهما إلى المستشفى ,حيث لفظت المسكينة أنفاسها الاخيرة ,بعد جلطة دماغية سببتها الصدمة المفاجئة ,ويشاء القدر أن تُحفظ جثتها بجانب جثة زوجها الذي قضى في الحادث المروع.
أما خداجة "الطفلة" الآن فتعيش مع الجدة المريضة "خداجة" في منزل أحد الاقارب ,حيث لا تُفارق إحداهما الاخرى ,ولا يعرف النوم إلى عيونهما سبيلا.
وفي الختام أقول :
إن الكلام وحده لا يكفي أبدا ,ولن يكفي لوصف حالة هذه الاسرة التي فرق هادم اللذات شملها ,وجارَ الزمان عليها ,فأبدل فرحها ألما وحزنا دائبين.
كان الله في عون مَن تَبَقى منها ,ورحم مَن غادر الدنيا في ظرف مأساوي لم يتجاوز بضع دقائق محدودة ,حيث انطفأ نورها ,وأظلمت دنياها ,وبُدلت بعد السعادة شقاء ,وبعد الفرحة بؤسا ,وبعد الاجتماع تفرقا.
تُطفئُ الموتُ ما تضيءُ الحياةُ
ووراءَ انطفائه ظُلماتُ.
قصة بقلم/ محمد محمود محمد الامين
تم نشرها لأول مرة سنة 2017
،حيث كانت الوقائع قريبة من هذا التاريخ