هذه القصة تحمل في ثناياها معان كثيرة، فهي تفيد حب هذين الزوجين لبعضهما وحرصهما على استمرار الحياة الزوجية حتى وإن اعترضتها بعض المنغصات، أما العالم الجليل الذي أباح لهما العودة لبعضهما بعد الطلاق الغريب فقد كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وكان يحب الصدقة كثيرا ,وقد عالج الموقف بذكاء وحافظ على استقرار هذه الأسرة.
ولعل الجميل في القصة الطريقة الذكية التي عالج فيها (هذا العالم) المشكلة، وهذا ليس غريبا على فقهائنا لأنهم يجمعون بين الذكاء والعلم.
ومن المشكلات الكثيرة التي يقع فيها مثل هذا لنوع من الطلاق أن امرأة كانت في فمها تمرة فغضب عليها زوجها وقال لها : إن أكلت التمرة فأنت طالق، وإن أخرجتها فأنت طالق، وإن مسكتيها فأنت طالق، فكان الحل بأن تأكل بعضها وتخرج بعضها.
وقصة أخرى لامرأة كانت تصعد سلما فغضب عليها زوجها، وقال لها : إن صعدت السلم فأنت طالق، وإن نزلت فأنت طالق، فوقفت ثم ندم زوجها وذهب يستشير العلماء فأفتوه بأن يصعد إليها ويحملها على ظهره وينزل بها حتى لا يقع الطلاق ,وقصص كثيرة مشابهة تحدث بين الزوجين يكون الغضب وسرعة الانفعال فيها سببا لتفكك الأسرة وهدم البيت، ولكن الفقهاء الواعين والأذكياء يجدون مخرجا ليحافظوا على استقرار الأسرة بطريقة فيها حكمة ولا تخالف الشرع.
ولعل هذا ما نحتاجه اليوم لمن يعمل بالإرشاد الأسري وعلاج المشكلات التربوية والزوجية، بأن ينمي ذكاءه كما ينمي علمه ومهاراته من أجل الحفاظ على الأسرة واستقرارها، فلا يكفي العلم وحده ما لم يمتلك العالم والفقيه آلات ومهارات التفكير والإبداع من أجل توفير الحلول الذكية للحفاظ على الأسرة ولا مانع من استخدام ثورة الاتصالات الحديثة والتطور التكنولوجي وتوظيفها بمشاريع وحلول ابتكارية للحفاظ على الأسرة.
وقصص الطلاق كثيرة ولكن عندما يقع الطلاق بين زوجين يُضرب المثل بحبهما لبعضهما البعض فإن وقْع الطلاق يكون مختلفا، وهذا ما حصل للخليفة هارون الرشيد عندما طلق زوجته زبيدة بطريقة غريبة وهو بحالة غضب فقال لها: (أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة) ثم ندم على ما قال لأنه يحبها كثيرا، وهي حزنت كذلك حزنا شديدا، فظل يجتمع مع العلماء والفقهاء ويعرض عليهم يمينه ويقول لهم أنا لا أريد الطلاق ولكن كيف أضمن أني من أهل الجنة حتى لا يقع الطلاق، فلم يجدوا له مخرجا من وقوع الطلاق ولكن اقترحوا عليه أن يطلب عالم مصر وفقيهها وهو (الليث بن سعد)، ثم جمع الفقهاء مرة أخرى بحضور الليث بن سعد فتكلم كلهم إلا (الليث بن سعد)، فطلب منه الرشيد أن يقول رأيه، فطلب الليث من الرشيد إحضار مصحف جامع، فأمر به فأحضر فقال الليث: تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن، فتصفحه حتى وصل سورة الرحمن فقال له الليث: اقرأ يا أمير المؤمنين، فقرأ الرشيد حتى وصل للآية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، فقال الليث: قف يا أمير المؤمنين، هل أنت تخاف مقام الله؟ فقال الرشيد: نعم، والله إني لأخاف مقام الله، فكررها مرارا فقال له الليث: طالما أنك تخاف مقام الله وقد أقسمت على ذلك فأنت مبشر بجنتين وليس جنة واحدة، وبناء عليه يكون الطلاق الذي تلفظته على زوجتك لا يقع، ففرح الرشيد وابتسم وقال: له أحسنت بارك الله فيك، ثم أمر له بالجوائز والهدايا لأنه فرج عن كربته ورده لزوجته بذكائه وسعة علمه، وكانت زبيدة زوجته تسمع الحوار بلهف من وراء الستار، ففرحت فرحا شديدا لأن هذا الفقيه أزال غمها وكشف كربتها وأمرت له بجوائز وهدايا ضعف ما أعطاه زوجها الرشيد، ثم أستأذن الليث للرجوع إلى مصر فحمل مكرما.
فزبيدة هذه هي بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وقد قيل في مدحها أنها امرأة لأكثر من تسعة محارم كلهم خلفاء، فزوجها الخليفة هارون الرشيد وجدها المنصور وأخوه السفاح وعمها المهدي وابنها الأمين وأبناء زوجها المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل كلهم كانوا خلفاء، وهي صاحب فضل وخير وقد عملت المشروع الخيري الكبير وهو (عين زبيدة) لسقى الحجاج المسافرين من العراق إلى مكة، واسمها (أمة العزيز) ولكن سماها جدها (زبيدة) لبياض خدها، وهي من أعظم نساء عصرها دينا وأصلا وجمالا وعملا للمعروف، ومن يذهب إلى مكة اليوم يجد إلى الآن (عين زبيدة) شاهدا على حبها للخير وعملها الخيري.
أما هارون الرشيد زوجها فقد كان محبا للجهاد والغزو والعلم والعلماء والفقهاء، وكان من أنبل الخلفاء إدارة وسياسة وخوفا من الله، ولكن بعض المؤرخين لفقوا عليه الأكاذيب وشوهوا صورته فنسبوا إليه شرب الخمر والسهر الدائم مع الجواري الحسان، إلا أنه كان تقيا ورعا وقد وصفه الخطيب البغدادي بأنه كان يصلى القيام كل ليلة، ويتصدق كل يوم بألف درهم من ماله الخاص، وكان يحج في سنة والسنة التي لا يحج فيها يحجج فيها من لا يستطيع الحج.