في ضيافة الرئيس
ذات مساء , وفي صيف هذا العام كنت أفكر في الخروج من العاصمة لشدة حر تلك الايام ,وأن ألجأ الى مكان بعيد لعلني أجد فيه المتعة والراحة النفسية والجسدية بعد سنة كاملة من الكد والتعب "والدّفرة"
وبينما أنا أترنح بين فكرة وأخرى إذ قطع حبال أفكاري رنين هاتف "نوكيا الظواية" التي في جيبي فقلت في نفسي :
:هذا واحد أكيد" سيطلب مني بعض النقود وليس في جيبي سوى 1000 أوقيه "والله ما نعطيهم للوالد إلى كَام من قبرو ظركْ يرحمُو"
فنظرت , وأعدتُ النظرَ مرة أخرى إلى شاشة الهاتف فلم أتبيّن الرقم لقِدمِ الهاتف وعدم وجود النظارات في تلك اللحظة فقررت الرد :
آلو مين امعايَ؟
آلو نعم : امعاك أحمد ولد باهية مدير ديوان رئيس الجمهورية... .
سقط الهاتف من يدى لِهول المفاجأة, ثم التقطته بسرعة ..أهلا وسهلا و100 مرحبا ..وأنا أرتجف من الخوف , لأنني قبل يومين كنت أنتقد الرئيس في مجلس من المجالس , وأتهمه صراحة بعدم الوفاء بما جاء في برنامجه الانتخابي..
والمصيبة الكبرى هي أنني تأكدت أن مدير الديوان ليس مخطئا في الرقم عندما قال :
أأنت فلان بن فلان؟
أيّة مصيبة سوداء حلت بي ؟ قلت في نفسي , ولم أفق إلا على صوته : أنت امعايَ ؟
نعم.. نعم امعاك طبعا صاحب المعالي!!
السيد الرئيس يريد حضورك هذا المساء لحفل عشاء على شرف كبار رجالات الدولة وبعض الساسة وضباط الجيش , ثم قال , وفي نبرة ليّنة مصحوبة بضحكة خفيفة هدّأت من روعي قليلا :
تنتظرك مفاجأة سارة , وستأتيك سيارة رئاسية تنقلك الى القصر بعد صلاة العشاء مباشرة , ثم أغلق الهاتف.
لكن صوته المتفائل وضحكاته الخافتة لم تدع فيّ شعرة إلا ورقصت من الفرحة المشوبة بالترقب.
بعد انتهاء المكالمة ,بدأت على الفور ــ وأنا أسير في الشارع على غير هُدًى ــ أخمّن المفاجأة التي تنتظرني.
أَتراها وظيفة كبيرة في الدولة , ولمَ لا؟ أم لعلها مبلغ كبير من المال ؟ ربما!! , أم هو شيء آخر لا يخطر على البال؟
ولم أنتبه إلا على صوت فرامل سيارة كادت تدهسني فوق الشارع , وسائقها يلعنني ويصرخ بأعلى صوته :
هل أنت مجنون , أم أعمى , أم أصم....تمشي وسط الشارع بهدوء وكأنك في صحراء واسعة؟
لاحت مني التفاتة سريعة إليه ثم ابتسمت ومضيت , وفي نفسي سخرية من الرجل , فالمسكين لا يدري أنني بعد قليل سأكون جالسا مع رئيس الدولة وجها لوجه , وربما يشاهدني في التلفزة الوطنية وأنا أجلس بين كبار الضيوف.
بعد صلاة العشاء مباشرة اتصل بي سائق سيارة الرئاسة , فتواعدنا في مكان معين , ثم انتقلنا سريعا الى القصر الرمادي وأثناء الطريق ــ وأنا أجلس على المقاعد الخلفية الوفيرة وحدي كما يفعل كبار المسؤولين ــ وددت لو طلبت من السائق إعارة سروال لأن سروالي قديم وغير مكوي , لكن أبّهة السيارة ولذة الجلوس في المقاعد الخلفية , وما تتركه في نفس الانسان من إحساس بالخيلاء والكبرياء منعتني من سؤاله , مع حاجتي الشديدة الى سروال جديد أدخل به أجواء الحفل الرئاسي , والذي عرفت فيما بعد أنه أشبه شيء بعروض الازياء التي نشاهدها على الشاشات...
لم تطل الرحلة حتى دخلت السيارة القصر من البوابة الخلفية المقابلة للمسجد الصغير اليتيم الذي أمر ببنائه الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله..
كان رئيس الجمهورية شخصيا هو من يستقبل الضيوف بعد أن يُعرِّفه كل شخص على نفسه ووظيفته , وعندما حان دوري لمصافحة فخامته قدمت له نفسي أنني فلان الفلاني ثم أتبعتها بهمهمة عن وظيفتي الافتراضية لم أشأْ أن يُسمعَ منها الا كلمة "عام" في الاخير , لعل من يستمع الينا يعتقد أنني أمين عام لإحدى وزارات الدولة المهمة , أو مدير عام لمؤسسة مالية كبرى , هذا ما أردت أن يُفهم من تمتماتي.
والحقيقة أن الرئيس كان إنسانا متواضعا جدا , فعانقني وانصرف , حيث كنت آخر الواصلين , وبعد استقباله لي ,ذهب إلى زاوية منعزلة في حديقة القصر فيها عدد من النوق "اشوايل" ومعه أحد الضباط الكبار ورجل الاعمال اشريف ولد عبد الله فتبعتُهم , وإذا بي أفاجأ بالسيد الرئيس يحلب ناقة بنفسه بينما الضابط يمسك "آدرس"...بعدها جلس على الارض وشرب معظم اللبن , ثم حمد الله ومسح فمه وأنفه عن "الرغوة" وناولني القليل المتبقي فشكرته , وأتيت على آخر البقية الباقية ولم أترك لصاحبيه شيئا مع أنهما يستحقان "فظلة" الرئيس أكثر مني..
أقبل فخامته على ضيوفه بعد أن قال بصوت خافت سمعته بوضوح لقربي منه :
"اخلينَ كَاع بينَ ذَ من الرسميات"
كان حفلا رائعا ضُربت فيه الخيام وسطعت الانوار وبُسطت الموائد..فكان أشبه بليالي ألف ليلة وليلة..
ومِن الوجوه المألوفة التي التقيتها في ذلك الحفل المهيب السيد/ محمد الامين ولد الدادّه , فاستغربت من وجوده بين المدعوين لأنه كان متهما باختلاس أموال عامة , وقد سُجن لفترة طويلة , كما رأيت مسعود ولد بالخير , وجميل ولد منصور الذي كان يحاول الاقتراب من الرئيس ويركض خلفه كلما ذهب في ناحية دون أن يتمكن من لقائه.
كما لفت انتباهي وجود جميع الرؤساء سابقين باستثناء ولد الشيخ عبد الله وولد الطايع لأن الاول معذور والثاني مغدور حسب بعض الروايات..
كان من بين الحضور أيضا رجل ظننت في البداية أنه يحي ولد احمد الوقف فلما اقتربت منه إذا به المعارض الشرس ولد بدر الدين فدُهشت لحضوره وسألته ـ بفضول ـ عن سبب وجوده , وهو المعروف بعداوته الشديدة للنظام وللرئيس بصفة خاصة , فضحك ضحكة فيها من خبث السياسة ودهاء اليساريين الشيء الكثير , ومع ذلك فالرجل كان لطيفا ودودا في حديثه معي...
وبعد أن شارف الحفل على نهايته , وأكل القوم وشربوا ــ خاصة أنا وامربّيه وولد اجاي ــ مما لذ وطاب من صنوف وألوان الطعام والمشروبات "وغيرها", أشار إليَّ الرئيس خفية , ثم سار أمامي وتبعته إلى حيث توقف في زاوية من زوايا القصر غير مضاءة جيدا , وقال لي :
هل لديك حقيبة؟ فقلت لا , ثم تذكرت حقيبة قديمة كنت قد رميتها في "ابراكَـ لمعيز" منذ فترة لعدم صلاحيتها , فقلت سأذهب وآتيك بها سيدي خلال دقائق دون أن أعرف سرّ سؤاله عن الحقيبة , لكنني اعتقدت جازما أنه سيملؤها نقودا , فذهبت لأفتح "البراكَـ" وأعود بالحقيبة فجرحني مسمار كنت أعلق عليه ملابسي وسط الغرفة التي أنام بها ,فانتبهت فزِعا بسبب الدماء التي تسيل من يدي بغزارة ,وإذا بالامر كله كان مجرد حُلمِ نائم أنهك جسمه التعب.
قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ
بقلم/ محمد محمود محمد الامين