تحليل موضوعي لصوتيات القاضي التي أدت لإقالته

خميس, 01/07/2021 - 12:25

صوتياتٌ فإقالة.. مخافةَ التفاهة!
-----------------------
 لا شك في أن مَن يملك صلاحية التعيين في المنصب يملك صلاحية الإقالة منه، ولا شك في أن بعض المناصب السياسية والفنية تقتضي التزام واجب التحفظ.. لكن كيف لصاحب الصلاحيات أن يمارسها بعقلانية ورشد دون انزلاق إلى حدود التعسف؟ وكيف لكبار الموظفين العموميين أن يلتزموا بمقتضيات المنصب دون مصادرة لحقهم في حرية التفكير والتعبير والاعتقاد؟
 استمعت إلى صوتيات للقاضي أحمد ولد هارون، وقد أعجبتني كثيراً نوعية التفكير المنهجي والتناول الراقي في مقاربته لأوضاعنا الحالية ولطبيعة السياسات العامة المنتهجَة وما يعتريها من سلبيات ومظهر ضعف في نظر الكثيرين. لقد شخّص المأزق الموريتاني أفضل تشخيص وأكثره دقة، وأعطانا خيطاً مهماً قد يقود إلى وضع خارطة طريق للخروج من هذا المأزق وللتحرك مجدداً نحو دولة تملك الأمل ولا يخنقها اليأس ولا يحاصرها البؤس. 
إن ما قاله ولد هارون في صوتياته حول تبدد الأمل الذي طبع المرحلة الأولى من حكم الرئيس غزواني، وتحوله إلى يأس مع توالي القفزات غير المنهجية من مشروع إلى آخر ومن خطة إلى أخرى، دون رابط انتقال موضوعي أو مقنع.. دليل على الافتقار إلى رؤية منسجمة أو سياسة عامة متماسكة، وهو ما يقوله الجميع، وبينهم المسؤولون وكبار الموظفين، ويزدادون اقتناعاً به، سواء أفصحوا عن ذلك أم منعتهم أسباب واعتبارات مختلفة. 
 وكما استمعتُ لصوتيات ولد هارون بتمعن وانتباه، فقد قرأت باهتمام كذلك بعضَ ما نُشر على الفيسبوك في الحملة على الرجل تبريراً لقرار إقالته الذي صدر ساعات بعد انتشار الصوتيات، لكني لم أجد في كثير من تلك المنشورات سوى تكريس لثقافة نعلمها ونألفها وقد أصبحت جزءاً من تكويننا الفكري؛ وخلاصتها أنه لا حق للموالي (مسؤولا كان أم تاجراً) في أي رأي حر أو تفكير مستقل أو تعبير نزيه عن قناعة خاصة، وأن احتفاظه بالمنافع والامتيازات والمناصب مشروط كلياً بإذعانه لثقافة القطيع والتزامه بها التزاماً أبدياً.    
 والقول بتأبيد صمت الموظف العمومي هو الوجه الآخر للقول بحرمان المعارض من تولّي أي منصب عمومي مدى الحياة، والقولان معاً لا يمتان بأي صلة إلى الثقافة السياسية لدولة القانون والمؤسسات والحقوق الديمقراطية.   
 إن هذا النمط من التفكير والأوضاع التي أفرزته ورسخته وكرسته، هما ما ظل يشد بلدَنا إلى الخلف نحو مهاوي التخلف والارتكاس إلى عهود ما قبل الدولة، وهما ما توسم الكثيرون في غزواني أن يعمل على تغييره بجد وهمّة، خاصةً بعد إشارات الانفتاح التي أرسلها باتجاه المعارضة السياسية، والتي حسبها البعض بدايةً (ولو خجولة) لنبذ كثير من أساليب الفساد والزبونية في الحياة العامة. بيد أن إقالة ولد هارون اليوم أوضحت هي أيضاً أن آمال الحالمين بالتغيير من هذا الباب كانت آمالا خُلباً، وأن نظام الحكم لا يقبل النصح الأمين ولا يريد الرأي الحصيف حتى ولو كان من داخله. 
 إن قرار إقالة موظف بسبب تقديمه رؤيةً تحليلية عميقة وشاملة، تصلح مقدمةً لخارطة طريق نحن بأشد الحاجة إليها، هو دليل ضعف وهشاشة وليس دليل قوة وحصافة، حيث يبدو بالفعل أن الدولة ضعيفة أمام لوبيات الفساد وباروناته العابرين للأنظمة، كما تبدو بالقدر ذاته ضعيفةً وعاجزةً أمام كل المشكلات التي وجِدت في الأصل كي تجد لها الحلول والمخارج.. تماماً كما أوضح ولد هارون في صوتياته التي كان أولى بالنظام أن يستمع إليها باهتمام وتمعن، لا أن يرد عليها بإقالته من منصبه، وكأن الغرض هو ردع الآخرين عن أي تفكير حر أو تعبير جريء! 
 لكن حتى ولو تحقق الردع، فإنه لن يخرج بالبلاد من طوفان المشكلات التي ما فتئت تنسج خيوط مأساة الموريتانيين على مدى عقود متتالية من البؤس والتقهقر، بينما تجاوزهم الجيران وغير الجيران في مجالات التنمية والحكامة ودولة القانون. وفي أثناء هذا كله تغرق موريتانيا «في كبّاية شاي» بسبب صوتية لرجل مثقف وصاحب رأي، ذكر فيها أكثر من مرة اسم الفيلسوف والروائي والناقد الفرنسي اندريه مالرو الذي كان وزير ثقافة في حكومة ديغول، وما أدرانا ما ديغول، قائلا إنه كان يضعه دائماً على يمينه مخافة السقوط في عالم التفاهة!
محمد المنى

  

         

بحث