سنتناول اليوم إحدى أهم القصص المحلية التي كتبتها الظاهرة الادبية والمبدعة المتميزة المعروفة في الاوساط الثقافية باسم : "الدهماء ريم" والتي تلألأ نجمها وسطعت شمسها في السنوات الاخيرة كإحدى أهم الكتاب الموريتانيين وأرسخهم قدما ,وأبرعهم قلما.
نعم ..حين تقرأ لها أي نص ,سواء كان مقالا أو قصة ,أو خاطرة ,ستدرك أنك أمام شلال متدفق ينساب كما تنساب مياه نهر جار في رحلة سرمدية تجعلك فاغرا فاك لا تدري هل البداية أجمل أم النهاية ,المنبع أمتع أم المصب أروع..
وحين تطوف بك "الدهماء ريم" بين سطور وصفحات قصة جنوح الفرقاطة "لا مديز" على السَّواحل الموريتانية، تجعلك تغرق في تفاصيل غاية في الدقة والاتقان ,وستحس بلذة لا عهد لك بها ,وتود لو تلتهم الزمن وتختصر المسافات لتشارك أبطال القصة في تلك الأحداث "التراجيدية" التي رسمتها "الدهماء" بحِرفية ومهارة حتى بدت كأنها لوحة فنية تتداخل فيها الالوان فتحولها من حالة محسوسة إلى حالة مرئية.
مقدمة بقلم / محمد محمود محمد الامين
(المنشور الرابع ) من قصة جنوح فرقاطة "لامديز" بقلم الكاتبة/ "الدهماء ريم"
أنا وابنتي.. واللوحة الخالدة.
....ا
الطَّوافة، Le radeau، الفصل البشع.
....ا
تحمل الطوافة المنحوسة 150 شخصا، وكُلَّما حاولوا الوصول إلى السَّاحل جَرَفَهم التَّيار بشدَّة اتّجاه العُمق، اعتُقلوا في عَرْض البحر لثلاثة عشر يومًا بلا ماء عذبٍ ولا غذاء،.. تَخلخَلَ نظام تقسيم حِصَصِ المؤونة، وسيطر عليهم الذّعر الحالك والفوضى، قذفتهم الأمواج العاتية فألقت بعشرين منهم إلى البحر في الليلة الأولى، حاصرتهم أسماك القرش (تاسْ)، وفي الليلة الثانية حصل بينهم شقاق وتمرُّد واقتتال عنيف بالسيوف والفؤوس، أغرق بعضهم البعض، ارتدُّوا تمامًا لعالم الوحشية والافتراس،.. في هذا المفصل الدقيق، في الحدِّ الفاصل بين الموت والحياة، يُحاول بعضهم بأنانية البقاء حيًّا على حساب الآخر، إلى ان أُخضعوا بسلاح الضُّباط بعد مذبحة مُروِّعة، لينقص عددهم إلى السِّتين (أقل من النصف)، ولم يبق من المؤونة إلا برميل نبيذ واحد، فقد قذفوا بها في جنون الفوضى أثناء تمردهم وكذلك فعلوا ببرميلَيْ الماء.
وتشير بعض القراءات إلى احتمال تآمر بعض الضُّباط بإثارة التَّمرد من وقت لآخر فوق الطَّوافة للتَّخفيف من حُمولتها البَشريَّة مع إظهار الأمر في شكل حادث عَرضيٍّ.
في صبيحة اليوم الثاني عاد الهدوء للطوافة وضَغط الجُوع برعبٍ على الرُّكاب، لعقوا الحبال، مَضَغوا القبَّعاتِ والأحزمة الجلديَّة، فشلت كل مُحاولة منهم للصَّيد العشوائي، كانت جُثَث المتمرِّدين والجَرحى المُحْتَضرين تُغطِّي الطَّوافة،..
في اليوم الثالث انقضَّ بعض النَّاجين على الجثث في هيستيريا، مزَّقوها وأكلوها، كان مشهد الدماء البشرية على أيديهم وأفواههم مُرعبا وفوق طاقة التَّحمل، لذا اقترح عليهم ضابط الصحة "سافيني" وهو طبيب جرَّاح، تجفيف شرائح من لحم الجثث لجعلها سائغة للأكل ومقبولة المظهر نفسيًّا،.. ومع الوقت تصاعدت بينهم حالة هلوسة ذهنية تشبه الجنون.
في الليلة الثالثة والماء يصل إلى ركبهم، كان لزاما عليهم البقاء وقوفًا، ملتصقين ببعضهم وهي وضعية انهكتهم بدنيا مع الجوع..
مع بزوغ فجر اليوم الرابع يتكشف الظلام عن عشر جثث من زملائهم فوق الطوافة، سقطوا في تمرد جزئي ليلي أجهضه الضباط أيضا، سحبوا الجثث للماء واتفقوا على الاحتفاظ بواحدة للتغذية،.. يومًا بعد يوم، سيرهِقهم الجوع والمُداومة على شرب البول، وتَفسُّخ الجلد وتقرُّحات حروق الشمس والجفاف ورائحة الغذاء الآدمي.
في اليوم الخامس تناقص عددهم لثلاثين فقط، ظهر فيهم الجنون بأعراضه المزمنة، بَقَرَ ثلاثة منهم بطونهم كعقاب ذاتيٍّ على إثم أكل لحم البشر.
كان على الأقوياء بسط السيطرة على الطوافة وقد فعلوا، ثم كان عليهم لاحقا اتخاذ الخطوات المناسبة لضمان بقائهم، فكان القرار الأنسب التَّضحية بالضُّعفاء والجرحى بالتَّخلص منهم في البحر لتخفيف حمولة الطَّوافة، وتوفير نصيبهم من النَّبيذ وتوفير الجهد في التعامل معهم، فأوعزوا إلى المرضى وكبار السِّن بضرورة الانتحار طَواعيَّة!،.. أقاموا عليهم إعدامًا جماعيا، فقد كانت الانتقائية في منح فرصة الحياة للقابل للصُّمود بَدنيًّا.. ولحظة تنفيذ الإعدام أشاحوا عنهم بوجوههم تمثُّلًا لبقيَّة أخلاق، وأمروهم بالنزول إلى الماء في فعل موتٍ قدَّروه رحيمًا، إذا ما قُورنَ بضربة فأس على الرأس.. فالظَّرف يتقضى ضرورة أن يموتوا بلا تردد ولا عاطفة.
بعد أن نَفَدَت الجثث وقديدها المُجفَّف، بدأ بعضهم يراقب بعضهم ويتربَّص به كالضَّواري، بحثًا عن سقطةِ خَوَرٍ أو لحظة ضعف أو نومٍ عميق، تُشرِّع الانقضاض على الضحية وتحويلها لقطع لحم،.. وإن كانت بقية أحاسيس من روح العقيدة العسكرية أوحتْ للُّثلة المتبقية بواجب إلقاء جميع الأسلحة الموجودة على الطوافة في البحر لضمان أمنهم في مواجهة بعضهم، احتفظوا بسيف واحد فقط لتقطيع الجثث، وبهذه التصفية البشرية أنقذ خمسة عشر ناجيا حياتهم بتوفير مؤونة 7 أيام من قطرات شحيحة من النبيذ..
في 17 يوليو ، أرسل القبطان Chaumareys السَّفينة الشِّراعيةL’Argus للبحث عن حُطام الفرقاطة "لا مديز" التِّي تركوا عليها الكثير من المؤونة، والبضائع، ولكن طَمَعًا أيضا في استعادة ثلاثة براميل من العُملات الذَّهبية والفضِّية بقيمة 92.000 فرنك من مالِ الملك، كانت مُخصَّصة لخزينة إدارة المُستعمر في السَّنغال، وقد كان في تقدير القُبطان الذِّي لطَّخ شَرفه كقائدٍ، أنَّه لم يبق من ناجٍ أو شاهد مزعج، لكن لحسن الحظ مرَّت السفينة في طريقها قُرب الطَّوافة التائهة (الصورة 1)، واستطاعت انقاذ بقية ركابها الخمسة عشر، وهم أنفسهم الذين خلدتهم لوحة "طوَّافة لامديز" Le Radeau de la Méduse.
وجدوهم أشباحًا، ظلال أنفسهم، بأجسامٍ مشوَّهةٍ ومَظهرٍ متوحِّشٍ، ووجدوا لديهم بقايا من شرائح لحم بشري مجفف عالقة على الحبال،..
توفي خمسة من الناجين قبل وصولهم إلى سين لويس، في التَّاسع عشر من يوليو.
عَمَد الناجون إلى تدوين قصَّتِهم، مُفنِّدينَ روايةً للقبطانِ والحاكمِ العسكري حاولاَ بِها تسويق انفسهم في صُورة أبطال كارثةٍ افتروا أنَّها حدثت بشكل عَرضيٍّ، متنصلين من كل مسؤولية عنها، من بين منْ كَتب عنها الجرَّاح "سافيني" الذي كان من ضمن الناجين القلائل على الطَّوافة، وهوَّ ما أغضب وزير البحريَّة، فهدَّده واتهمه بإهانة صورة فرنسا بكشفٍ غير مُجدٍ عن تفاصيل فظيعة، مؤكدًا له من خلال مُسلَّمة سياسية براغماتية أنَّ: «الحقيقة ليست بالضَّرورة قول مَا وقع بالضَّبط، بل هيَّ قول ما يُفيد»!
في 26 يوليو 1816م، أرسل الحاكم "شمالتز" سفينة شراعية صغيرة يقودها ملازم بحري تحمل مجموعة من الغطاسين السود إلى موقع حطام السفينة "لا مديز" ، ولسوء الأحوال الجوية لم تصل إلا بعد 52 يوما من تاريخ الكارثة، وبعد عدة محاولات، وصلوا إلى الحطام قبالة السواحل الموريتانية، كان الجزء الأكبر من الهيكل ما زال متماسكا، عثروا على أربعة أحياء من أصل سبعة عشر، فقد آثروا البقاء على حطام الفرقاطة حين قرر رفاقهم تجربة الوصول إلى الشاطئ سباحة أو في أقفاص للدَّواجن وابتلعهم الماء أمام أعينهم، انتحر أحد الأربعة تحت تأثير فوبيا الإبحار من جديد.
......ا
يتبع بإذن الله
لمتابعة الاجزاء السابقة ,يرجى الضغط هنــــــــــا