سنتناول اليوم إحدى أهم القصص المحلية التي كتبتها الظاهرة الادبية والمبدعة المتميزة المعروفة في الاوساط الثقافية باسم : "الدهماء ريم" والتي تلألأ نجمها وسطعت شمسها في السنوات الاخيرة كأحد أهم الكتاب الموريتانيين وأرسخهم قدما ,وأبرعهم قلما.
نعم ..حين تقرأ لها أي نص ,سواء كان مقالا أو قصة ,أو خاطرة ,ستدرك أنك أمام شلال متدفق ينساب كما تنساب مياه نهر جار في رحلة سرمدية تجعلك فاغرا فاك لا تدري هل البداية أجمل أم النهاية ,المنبع أمتع أم المصب أروع..
وحين تطوف بك "الدهماء ريم" بين سطور وصفحات قصة جنوح الفرقاطة "لا مديز" على السَّواحل الموريتانية، تجعلك تغرق في تفاصيل غاية في الدقة والاتقان ,وستحس بلذة لا عهد لك بها ,وتود لو تلتهم الزمن وتختصر المسافات لتشارك أبطال القصة في تلك الأحداث "التراجيدية" التي رسمتها "الدهماء" بحِرفية ومهارة حتى بدت كأنها لوحة فنية تتداخل فيها الالوان فتحولها من حالة محسوسة إلى حالة مرئية.
مقدمة بقلم / محمد محمود محمد الامين
(المنشور الثالث) من قصة جنوح فرقاطة "لامديز" بقلم الكاتبة/ "الدهماء ريم"
أنا وابنتي.. واللوحة الخالدة.
....ا
#LaFrégateLaMéduse
في يوم 4 يوليو 1816م، حَدَثَت ثُقوب في هيكل الفرقاطة "لامديز" وكُسِرت العارضة (لِگلاعْ)، بدأت تتقاذف وتتشظَّى تَسرَّبت المياه إلى جوفها، قرَّروا خِطَّة بديلة تقتضي التَّخلي عن السفينة الحربية واستغلال قوارب النَّجاة، لكن القوارب لا تَتَّسع لأكثر من رُبع الرُّكاب، وهنا استيقظت غريزة التَّشبث بالبقاء وَطَغَت على حساب القيِّم والأخلاق، أُعِدَّت قوائم الأسماء المؤهلة لحظوة الحياة والانقاذ في شبه دَسِيسة في الخفاء.
في صبيحة 5 من يوليو ارتفع الماء ازيدَ من مترين في السفينة، أُحكِمَت الخطة، تقرَّر أن تكون القوارب لعِلْيَة القوم من ذوي الأنساب والرُّتب النَّاعمة، والموظفين والضباط الكبار والتِّجار وأسرهم، وأن تُخصَّص الطوافة Le Radeau للأقل حظًّا في تصنيف الألقاب، أي للجنود والبحارة وضباط صغار واختصاصات مهنيَّة مُتنوِّعة، سُحبت من بعضِ الجنود أسلحتهم استباقًا لأيِّ اعتراضٍ منهم، فقد كان أغلبهم من خِرِّيجي السجون والقتلة واللصوص، وأُمِروا بركوب الطَّوافة، غير أنهم رفضوا، تمرَّدوا، لكنهم أُرغِموا في النهاية على النُّزول إليها تحت تهديد سلاح الضُّباط.
أسهم الهلع والعَجَلة في سوء تحضير المؤونة وتوزيعها، فكان نصيب الطوافة التي تكدس عليها 150 شخصا ستة براميل من النبيذ وبرميلين فقط من الماء، وكيس دقيق مُبتل وبعض البسكويت يكفي ليوم واحد.
في أنانية انتقى القبطان لنفسه قارب نجاة كبير، وكذلك فعل الحاكم بمعية زوجته وابنته ورفقته من الضباط السَّامين، وجَّهَ مرافقه العسكري فوهة بندقيته طاردا بحَّارة التمسوا الركوب معهم باسم الانسانية، واستغل 180 راكبا من المتميزين من أصحاب الرُّتب والنخبة الفرنسية بقيَّة القوارب، لقد أعطوا أسوأ مثالٍ للتضحية يومها.
كانت الخطة أن تُربَط الطوافة الأشهر بالقوارب الستة لتجرها، فيما يشبه ملحمة إنقاذ جماعية نبيلة الإخراج، (الصورة 6) لكن الطوافة لم تطف تمامًا، غاصت في الماء نصف متر، كانت الحمولة البشرية ثقيلة، الأجسام متلاصقة، والأقدام مُنحشرة بين شقوق الخشب، بدون بوصلة أو شراع، أدرك القبطان المذعور أنَّ طوَّافة الجنود والبحَّارة تسحب قوارب النجاة لعمق البحر، الأمر الذي يهدد حياته وحياة الصفوة من رفقته، فأمر في ساديَّة مجنونة بقطع الحبال عنها، حتى لا تنقلب القوارب أو تفقد خَطَّ سيرها، وتركهم لمصير محتوم.
اعتدلت القوارب، ابحر بعضها على هدي البوصلة نحو سين لويس، وكان من ضمن ركابها القبطان Chaumareys والعقيد Schmaltz وأسرهم ومُتعلِّقاتهم، بينما انحرف بعضها نحو الشَّاطئ ليبدأ ركابها رحلة عذاب من نوع آخر، مواجهة المجهول، والصحراء والموت والبدو!، نزل 63 شخصا عن القوارب المتضررة، وجازفوا عن طريق البرِّ على اليابسة الموريتانية، قرب رأس تيميريس،.. (الصورة 7)، نفذ ما معهم من بسكويت، أعياهم الجوع والعطش، شربوا بولهم، تابعوا سيرهم على الشاطئ باتجاه السنغال، كانوا في حالة رعب من السقوط في أيدي البظان ، واحتمال الاستعباد، وقد جمع البظان بين الجرأة والقوة، ، توغلوا جنوبا، يسيرون في الأغلب ليلًا، صادفوا خيَّام بعض البظان وكانوا في حالة بؤس كبير، النساء قبيحات وشبه عرايَا، والأمكنة قذرة، ومع ذلك سطوا عليهم وجرَّدوهم من ملابسهم،.. تتباين حكاياتهم مع من صادفهم من البظان، من الضِّيافة واللين، للطَّمع والتَّغرير والمقايضة بإجحاف، للسُّطو والتَّحايل والابتزاز.
لمحتهم السفينة الشِّراعية L’Argus ، القادمة من السنغال، وهم بمحاذاة الشاطئ فالقتْ اتجاههم بزورق نجدة حمل إليهم بعض المؤونة، هجم عليها البظان، نهبوا نصفها ثم عادوا وباعوهم إيَّاها من جديد، وطمعوا أيضا في ما باعوهم، وعلى قلتها كانت تلك المؤونة وراء بقائهم على قيد الحياة،.. استقبلهم ضابط ايرلندي يتبع للحاكم البريطاني، يدعى "كرنت"، يتقن الحسانية ويلبس زي البظان، أوصلهم لسين لويس في 30 من يوليو.
أثناء مغادرته الفرقاطة لا مديز بعد جنوحها، تخلَّى القُبطان عن سبعة عشر راكبًا على حُطامها، تركهم يواجهون مصيرهم المظلم، بعد أن ضاقت عنهم سبل الانقاذ، كانوا كَمًّا بشريا فَائضًا عن الحياة لحظتها، وقد كانوا حين إجلاء الرُّكاب في حالة سُكر شديد وغياب عن الوعي، وبهذا الفعل الشنيع، جَبُن عن مواجهة الموقف، خان واجبه، وتعدَّى على قانون البحرية،.. نفس الرُّكاب سينزل عددهم بفعل الموت لأربعة فقط، حين يصلهم الانقاذ في شهر سبتمبر أي بعد قرابة الشّهرين.
.......ا
يتبع بإذن الله...
تابعو الحلقة الثانية بالضغط هنا