القصة البوليسية "جريمة الغرفة المغلقة" قصة أول قاتل متسلسل في التاريخ الامريكي ومعظم الجرائم تثير الحيرة والقلق و الفزع من حيث الأسباب و الدوافع التي أدت إلى ارتكابها أو طريقة القتل التي مورست على الضحية, أو من ناحية أداة القتل المستخدمة. هناك جرائم ترتكب لأسباب ودوافع شخصية وهناك جرائم ترتكب بلا سبب إلا لمجرد القتل وهي التي يتم ارتكابها عادة بطريقة أكثر شناعة. إلا أن هناك جرائم مقلقة ومستفزة لا من حيث الأسباب المذكورة وإنما من حيث الكيفية التي تمت بها زمنياً أو مكانياً عندما تشير كل الدلائل على استحالة حدوثها, تاركةً انطباعاَ بوجود كائنات أثيرية أو أشباحا شريرة يمكنها أن تقتل الإنسان العادي بأكثر الطرق شيوعاً.
عبَرَ السيد آيسيدور فينك البالغ 30 عاما المحيط الأطلنطي مهاجراً من بولندا إلى أمريكا ليستقر في الجزء الشرقي من مدينة نيويورك في أواخر القرن التاسع عشر, و بعد أن استقر به المقام هناك أسس له عملاً صغيرا عبارة عن مغسلة ملابس (محل لغسل الملابس). كان أيسيدور رجلاً و حيداً لا عائلة له, لكن لم يكن لديه أية عداوات كذلك, و علاقاته مع جيرانه الذين يسكنون بمحاذاته كانت طيبة وودية, كان يعمل يوميا على غسل الملابس وكيها ثم توصيلها لأصحابها والعودة إلى مسكنه الصغير الملحق بالمغسلة, وهو طراز المساكن السائد لأصحاب الأعمال التجارية الصغيرة في ذلك الوقت.
في ليلة التاسع من مارس عام 1929 , انتهى آيسيدور من تسليم ملابس الزبائن كالمعتاد وعاد إلى مسكنه في الساعة العاشرة والربع مساءً, و عند الساعة العاشرة والنصف وصل إلى مسامع جاره القريب منه السيد لوكلان سميث أصواتاً صاخبة لعراك وصراخ قادمة من مسكن آيسيدور, وعلى الفور استشعر بأن هناك أمرا خطيرا يحدث, فانطلق لوكلان ليحضر الشرطة, و بالصدفة كان هناك رجل شرطة قريب جداً من المكان فقام لوكلان بإخباره فحضرا سوياً إلى الموقع .
مضى وقت قصير جدا بين سماع الجار للأصوات و حضور الشرطي إلى مسكن السيد آيسيدور, ربما دقيقتان أو ثلاث فقط.
استفسر الشرطي من الجار و اخذ أقواله حول ما سمعه, بعد ذلك طرق الباب و لما لم يجبه أحد قرر الدخول للمنزل, لكنه عندما حاول فتح الباب الأمامي وجد انه كان مقفلاً من الداخل, فذهب للباب الخلفي لكنه كذلك كان مقفلاً من الداخل, استطلع الشرطي جميع نوافذ المسكن و كانت جميعها مسمرة بالمسامير من الداخل وذلك بالإضافة إلى كونها ذات فتحات صغيرة جداً لرجل بالغ ليعبر بالقوة من خلالها لو حاول كسرها. قام الشرطي بكسر إحدى النوافذ ثم طلب من صبي صغير بأن يدخل من خلالها إلى المنزل ليفتح لهم الباب الأمامي
دخل الشرطي إلى المسكن و قام بتفحصه فإذا به يجد جثة آيسيدور ملقاة على الأرض و بها آثار ثلاث طلقات نارية اثنتان منهما كانتا في الصدر و الثالثة كانت في معصمه الأيسر حيث كان ذلك جلياً من أثار البارود على معصمه. حاول الشرطي أن يبحث عن أبواب سرية داخل المنزل وبحث خلال الجدران كلها ليرى إن كانت هناك منافذ خفية تؤدي إلى سرداب ينتهي بعيداً عن المنزل, لكنه لم يعثر على أي من ذلك. كان الانطباع الأول من رؤيتهم لمسرح الجريمة ولاستحالة إمكانية وجود شخص آخر في المكان أن الضحية أقدم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه.
لكن أين مسدس الجريمة ؟
لم يكن هناك وجود لأية مسدس في مسرح الجريمة على الإطلاق, و عادةً عندما يقدم أحدهم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه من مسدسه فمن المنطقي أن يكون المسدس ملقى على الأرض بالقرب منه أو أن يكون على الأقل ممسكاً به في يده, فكيف اختفى المسدس؟ من هذا يسهل تخمين أن هناك طرفا آخر ارتكب الجريمة, ثم اختفى مع المسدس بطريقة غامضة وغريبة, و بذلك تبخر ذلك الانطباع الأولي الذي أشار إلى أن السيد آيسيدور فينك انتحر, فهل سيقتل نفسه ثم يقوم بإخفاء المسدس و إغلاق الأبواب والنوافذ؟.
و لم يكن هناك أية مفقودات وجميع ممتلكات مسكن الضحية الثمينة مازالت موجودة , حتى المال الذي كان في جيوبه و في درج النقود لم يُسرق منه شيء, مما أدى إلى استبعاد دافع السرقة. و كانت مكواة الغاز لا زالت تعمل و موضوعةً على لوح الكي, و لم تأخذ الوقت الكافي منذ أن تركها آيسيدور من يده لتحرق القماش تحتها وهذا يعني أن الشرطي حضر لمسرح الجريمة بعد وقت قصير جداً من ارتكابها.
قال زبائن فينك آيسيدور, انه خلال السنة الماضية كان يتصرف بغرابة نوعاً ما جعلتهم يشعرون بعدم الراحة لأنه لم يسمح لأي أحد بالدخول إلا لأولئك الذين كان يعرفهم وأنهم عندما يدخلون إلى المغسلة كان يصر على إقفال الأبواب, وأكدوا أنه لم يكن للسيد آيسيدور أية أعداء إلا أنه كان مرعوباً من قيام أحدهم بسرقة متجره, وهو خوف مبرر في ذلك الحي.
لم يكن هناك أية بصمات في مسرح الجريمة إلا بصمات السيد آيسيدور فقط, و إن كان هناك قاتل كما أشارت المعطيات فكيف دخل وكيف خرج؟ فإنه يستحيل أن يكون هناك شخص ما يغادر المسكن ثم يقوم وهو في الخارج بإغلاق الأبواب والنوافذ من الداخل. بالإضافة إلى أن الشرطي حضر إلى مسكن آيسيدور في وقت قياسي, و لم يصادف أثناء عبوره للشارع و هو قادم إلى المسكن أي رجل آتٍ من هناك.
كان موت فينك آيسيدور فريداً وغريباً لسبب غير مفهوم حتى أن المنظرين الأكثر وحشية اعترفوا بالهزيمة أمام حبكته. لم تستطع السلطات التفكير بحل لهذا اللغز إلا أنهم خمنوا أن القاتل كان لاعب سيرك أو جمباز ذا مرونة عالية قام بزيارة مفاجئة واستطاع من دون أن يجذب الانتباه، أن يزحف من خلال النافذة العلوية ذات الممر الضيق، ثم أطلق النار على فينك من بعيد، وهرب من خلال نفس النافذة، محتقراَ ببساطة الطريقة الأكثر شيوعاً وهي القدوم من خلال الباب الأمامي.
لكن حسب أقوال الشاهد الأول وهو جار آيسيدور انه سمع أصوات صراخ وعراك قبل أن يستدعي الشرطة, معنى ذلك أن القاتل كان في المنزل و تعارك مع فينك قبل أن يرديه قتيلاً, ثم إن آثار البارود على معصم فينك يدل على أن إطلاق النار كان من مسافة قريبة جداً بشكل يوضح أن القاتل كان يقف أمامه. وهذا كله يستبعد فكرة أن القاتل أطلق النار من النافذة العلوية ثم زحف عائداً للخارج.
هذه الجريمة أثارت التساؤلات منذ وقوعها إلى هذا اليوم فما زال الكثير من رجال الشرطة يدرسون ملف الجريمة ليحاولوا استنتاج الكيفية التي حدثت بها. فهل رتب القاتل مسرح الجريمة و اقفل الأبواب و النوافذ أثناء خروجه؟ و إن كان فعل ذلك فكيف أمكنه أن يقفلها من الداخل بينما هو في الخارج؟ و كيف استطاع القيام بذلك في وقت قصير ما بين سماع أصوات الصراخ وحضور الشرطي إلى المكان حتى أن المكواة لم تستغرق وقتاً لحرق القماش الذي كانت موضوعة عليه؟ أم أنه خرج من باب خفي أو من ممر غير معروف أو بطريقة غير معروفة, حيث لم يشاهده أي أحد وهو خارج, بينما ظلت الأقفال على الأبواب من دون تحريك؟.
لكن يبقى السؤال الذي دار في أذهان الجميع ممن أطلعوا على هذه القصة هو: هل كان القاتل الذي ارتكب هذه الجريمة شبحاً ؟ ربما فلا أحد يستطيع أن يدحض هذه الفكرة لمجرد أنه لا يستطيع إثباتها.