مقال رائع بقلم المرحوم المختار ولد داداه

ثلاثاء, 30/03/2021 - 14:21

"لقد أتعبت الرؤساء من بعدك"

خلق الأمانة عند جيل الرئيس المؤسس رحمه الله
ه=============================ه

يروي الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته فيقول :

..... أما بالنسبة للرشوة فلم أتعرض لمحاولة الإيقاع فى شركها سوى مرتين عكسًا لما يمكن أن يتوقع. وترجع إحدى هذه المحاولات أساسًا إلى تقاليدنا فى هذا الشأن وليس إلى نظام الرشوة المعاصر. ولكن السؤال المطروح هو كيف نجوت من هؤلاء الراشين؟ إن السبب على ما يبدو أن هؤلاء كانوا يقومون فى البداية بتحريات دقيقة عن مدى قابليتى للتأثر بسخائهم المحتمل… بدل أن يظهروا لى إكرامهم مباشرة. فعندما يدركون أنى لست مهما بالنسبة لهم، فإنهم يلجأون إلى بعض أعضاء حكومتى الذين يقبلون التعامل معهم، وقليل ما هم لحسن الحظ. 

فخلال ثمانية عشر حولا لا أتذكر سوى ثلاث حالات رشوة محققة. وقد ترتبت عنها عقوبات سياسية وقضائية للوزراء المعنيين. فإذا كانت هناك حالات أخرى، فإنها أفلتت من يقظة مراقبى الدولة ومفتشى المالية.

وكانت أولى المحاولتين اللتين تحدثت عنهما قد وقعت فى سان لويس بالسينغال خلال شهر يونيو 1957 بعد فترة وجيزة من تشكيل أول حكومة فى ظل القانون الإطاري. أما صاحبها فهو محمد عبد الله ولد أده المعروف باسم "مرابط بومديد". وكانت هذه الشخصية الثرية قد اشتهرت بسخائها تجاه كافة وكلاء الإدارة من أفارقة وفرنسيين. وكان ذلك الكرم متعدد الأشكال يقدم فى ثوب لبق تختفى فيه كل جوانب الرشوة ويصبح عنصرًا من عناصر الضيافة الآسطورية لهذا "المرابط". فقد استقبلت محمد عبد الله ولد آده بمكتبى فى ذلك اليوم بناء على طلب منه حيث جاء - مثل كثير من وجهاء البلد – لتهنئتى رسميا بمناسبة تعيينى على نيابة رئاسة الحكومة الموريتانية. وقام المعني بعد التحية المألوفة وتبادل الأخبار بإخراج رزم كثيرة من الأوراق النقدية من جيوب جبته الخاصة التى يتفرد هو وتلامذته بلبسها، ثم قدمها إلي بكلتا يديه قائلا: إنكم ستنفقون الكثير من أجل تهيئة وضعكم الجديد، وهذه مجرد مساعدة. وقد لبثت لحظة قصيرة لا أدرى كيف أجيب، وكنت محرجا جدًا. فرفضى الهدية فى تقاليدنا هو إهانة لا أرغب أن يتعرض لها زائرى لاسيما أن منزلته الاجتماعية وعمره يفرضان علي احترامه. ولكن قبول هبته سيخلق سابقة خطيرة ضمن سياقنا الجديد الرامى إلى تشييد دولة-أمة تختلف ضوابطها ومرجعياتها تماما عن نظيراتها فى مجتمعنا التقليدي، ويختلف سياقها بالتالي عن السياق القديم.

وقد انتابنى ارتباك حقيقي ولكننى شكرته على سخائه الأسطوري، وشرحت له أن وظيفتى الجديدة، التى لم يتقلدها أحد قبلى فى تاريخنا، تمنعنى من قبول المال حتى ولو كان الواهب أبى الذى أعتبركم فى منزلته. وفاجأه ذلك وتكدر صفوه وألح كثيرًا ليثنينى عن رأيى مستخدما فى ذلك كل الحجج بما فيها الحديث الذى يقول ما معناه: "إن الهدية من غير سؤال لا ترد".

وبعد حوار لا أول له ولا آخر، نجحت فى إقناعه باصطحاب نقوده ووعدته أن يظل الأمر سرًا بيننا حتى لا يذاع رفض عرضه بين الناس حفاظا على هيبته الشخصية ونزولا عند رغبته. وقد أنجزت وعدى. فما مقدار ذلك المبلغ؟ إنه بكل تأكيد مئات الآلاف من الفرنكات الغرب إفريقية، فهل يصل حد المليون؟ أم أكثر؟ لا أعلم، فمخاطبى لم يقل شيئا بهذا الشأن!

أما المحاولة الثانية فحدثت فى طوكيو خلال شهر إبريل 1972، وكنت إذ ذاك على رأس وفد من منظمة الوحدة الإفريقية بوصفى رئيسًا دوريا لها. وكان الهدف من الزيارة مطالبة الحكومة اليابانية بالحد من علاقاتها الاقتصادية مع جنوب إفريقيا أو قطعها إن أمكن. وأثناء إقامتى فى العاصمة طلب ممثل شركة يابانية تعمل فى موريتانيا مقابلتى، فكان له ما أراد، ولا أتذكر بصحبة من؟ ولكنه حدثنى عن شركته قليلا، وبعد هنيهة أخرج من محفظته رزمة ربطت بشكل محكم، فى حجم آلة تصوير كبيرة أو جهاز إذاعي صغير، ثم قدمها إلى وفق الأسلوب الرسمي ولم ينبس ببنت شفة. وقد رفضت هذا العرض وشكرت زائرى من باب اللباقة. وعندئذ أعاد الرزمة مكانها ولم يصدر منه أي تعليق. وتلا ذلك صمت محرج، ثم استأذن منى بكل أدب قبل أن ينسحب. ولم أشأ الاطلاع على محتوى تلك الرزمة الغامضة الذى بقي سرًا أجهله إلى الأبد.

وكان بإمكانى لو رغبت أن أصبح مليارديرًا !! دون اللجوء إلى اقتطاع مرتب باهظ أو اختلاس الأموال العمومية أو الرشوة. فكيف ذلك؟ يكفى لتحقيق هذا الهدف أن احتفظ لنفسى، بكل بساطة، بالهبات التى قدمت لى شخصيا من قبل بعض نظرائي رؤساء الدول، وهو ما لم أفعله قط. فلماذا تصرفت على هذا النحو؟

إن السبب فى هذا يعود من جهة إلى كون غشاوة الثراء المادي لا تعلو ناظري، وهو ما فسره بعض الزملاء بعدم الوعي! فهل كانوا على حق؟ لا يعلم ذلك إلا الله وحده.

أما الناحية الأخرى فتعود إلى أننى أعتبر تلك الهبات مرتبطة بوظيفتى لا بشخصى، وبالتالى ليست ملكا لى رغم التحديد الواضح من المانحين. إنه منطق ملتو ومغالاة  فى التدقيق كما يقول البعض. ومع أن الأمر قد يكون كذلك، فإننى لم أقبل إطلاقا أن استخلص لنفسى تلك الهبات الهامة نظرا للسببين السابقين. وسأستعرض هنا أولئك المانحين حسب التسلسل الزمني لتقديم هباتهم السخية.

لقد أعلن لي الملك فيصل، ونحن فى السيارة التى أقلته إلى مطار نواكشوط للمغادرة، فى أعقاب زيارته الرسمية لبلادنا فى نوفمبر 1972 ما يلى: "سأبعث إليكم فى القريب عونا شخصيا مثل ما فعلت مع بعض الإخوة رؤساء الدول فى البلدان غير الغنية".

ولم تمض سوى بضعة أيام حتى قدم لى سفيره فى بلادنا صكا بمبلغ مليون دولار حرر باسمى. وسلمت ذلك الصك إلى المسؤول الوطني عن الخطة العاجلة لمكافحة الجفاف بعد أن تحدثت عنه فى مجلس الوزراء. كما طلبت أن يسجل ذلك الصك رسميا تحت عنوان "هبة شخصية من الملك فيصل لصالح الخطة العاجلة".

وفى شهر مارس من سنة 1973، أعلن لى الرئيس موبوتو خلال زيارته الرسمية لبلادنا عن عون شخصي بمبلغ 500.000.000 فرنك غرب إفريقي حولها بعد ذلك بوقت يسير. وحَوَّلتُ هذه الهبة الهامة إلى الميزانية وخصص جزء منها لبناء المدرسة العليا لتكوين الأساتذة التى حضر الرئيس موبوتو تدشينها بدعوة منى.

وقدم لي الرئيس بونغو بدوره فى مناسبات عدة صكوكا ومبالغ نقدية بقيمة 400.000.000 فرنك غرب إفريقي حولت إلى ميزانية الدولة، واستغل جزء منها فى تمويل بناء معهد التهذيب والدراسات السياسية(مدرسة الحزب) الذى اكتمل تشييده مع بداية 1978. وكان من المفروض أن يحضر الرئيس بونغو حفل تدشينه لولا الانقلاب. وتضاف إلى هذا طائرة كارافيل التى أهدانى إياها.

وفى شهر ديسمبر 1977، قمت بزيارة خاطفة للعميد هوفوتبونيى فى يامسوكرو للسلام عليه وبحث المشكلات الراهنة، وهي عادة أتبعها معه من وقت لآخر تتيح فرصة لتبادل الآراء البناءة والثرية. ولدى مغادرتي قال لى: "إنكم فى وضع حرج بسبب حرب الصحراء، وسأرسل إليكم فى القريب بمساعدة مالية ضئيلة". وبعد فترة وجيزة وصل رئيس الجمعية الوطنية الإفوارية فيليب ياسى Philippe Yacé على متن طائرة خاصة وهو يحمل حقيبتين كبيرتين ملأتا نقودا من فرنكات غرب إفريقية وفرنكات فرنسية بلغت قيمتها ملياري فرنك غرب إفريقي أي ما يعادل عشرة ملايين دولار! وقد سلمت الحقيبتين إلى وزير المالية دون أن أفتحهما، وأعطيت الأمر بوضع محتوياتهما فى الميزانية.

وفى بداية 1978 أرسل إلي الرئيس أهيدجو مبعوثا خاصا يحمل مبلغ 25.000.000 فرنك غرب إفريقي نقدا. وقد قام مدير ديواني بإدراج ذلك المبلغ فى الاعتمادات الخاصة بأمر منى.

فليجد كل إخوتى وأصدقائي الكرماء الذين ذكرتهم فى هذا الصدد خالص الشكر على هذا التضامن النموذجي والسخي. وقد شرحت لهؤلاء وأولئك أننى أفضل اعتبار هذا العون الضخم مساعدة من شعوبهم للشعب الموريتاني بدل أن استخلصه لنفسي.

(مذكرات الرئيس السابق المرحوم المختار ولد داداه)

 

ما بين السطور

  

         

بحث