سؤال حول الفرق في المعنى بين المثوى والمأوى
دَلالةُ (المثوَى) ، والفرقُ بينه وبينَ (المأوَى) :
وردت إِليَّ سابقًا أَسئلةٌ كثيرةٌ من (أَصدقاءَ ، وطلبةٍ) أَكارمَ لمعرفةِ الفرقِ الدقيقِ بين (مأوَى) ، و(مثوَى) ؛ فنشرتُ الجَوابَ آنذاكَ لهم وللعامَّةِ خدمةً معرفيةً للجميعِ. وقد جُدِّد السؤالُ اليومَ ؛ فلِمَنْ تفضَّل به ، وللجميعِ أُعيدُ الجَوابَ نفسَه:
اللفظةُ لها معنيان:
أ/ لغويٌّ فرديٌّ خالصٌ إِذا كانت مجردةً من السياقِ نحوَ (ضرب) بمعنى أَوقع فعْلَ الضرْبِ باليدِ ، أَو بعصا.
ب/ سياقيٌّ ارتباطيٌّ إِذا كانت ضمنَ نظمٍ بتركيبٍ ، أَو جملةٍ ، أَو نصٍّ نحوَ (ضرب محمدٌ في الأَرضِ) بمعنى (ارتحل للعملِ وطلبِ الرزقِ) ، و(ضربتِ الدولةُ النقودَ) بمعنى (سكَّتْها ، وأَصدرتها للتداول) ، و(ضرب اللٰهُ مثلًا) بمعنى (أَعطى شاهدًا مُركَّزًا لِحَدَثٍ مهمٍّ عِبرةً ، أَو تقريبًا ، أَو تعجيزًا.
فالمثوى بهذا الاستعمالِ أَصلُه من (ثوَى-يثوي) جاء في لسانِ العربِ: ((ثوا: الثَّواءُ: طولُ المُقام. ثَوَى يَثْوي ثَواءً وثَوَيْتُ بِالمَكَانِ وثَوَيْته ثَواءً وثُوِيًّا مثلَ مَضَى يَمْضِي مَضاءً ومُضِيًّا...وأَثْوَيْت بِهِ: أَطلْتُ الإِقامة بِهِ. وأَثْوَيتُه أَنا ... أَلزمتُه الثَّواء فِيهِ. وثَوَى بِالمَكَانِ: نَزَلَ فِيهِ. وَبِهِ سُمِّي المَنزِلُ مَثْوىً. والمَثْوى: الموضِعُ الَّذِي يُقام بِهِ. وجمعُه المَثَاوِي. ومَثْوَى الرَّجُلِ:منزِلُهُ. والمَثْوَى: مَصدَرُ ثَوَيْت أَثْوِي ثَواءً ومَثْوىً. وَفِي كِتَابِ أَهل نَجْران: وعلى نَجْرانَ مَثْوَى رُسُلي ، أَي مسكَنُهم مُدَّةَ مُقامهم ونُزُلِهم. والمَثْوَى: المَنْزل... وقولُهُ تعالى: ((إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ)) أَي إِنَّهُ تَوَلَّاني فِي طُولِ مُقامي... وثَوَى: هَلَكَ؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
فَمَنْ للقَوافي شَانَها مَنْ يحُوكُها
إِذَا مَا ثَوَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جَرْولُ؟...)).
ويجوزُ أن نقولَ في العزاءِ للميْتِ: (اللهمَّ اجعلْ مثواهُ الجنةَ) ؛ لأَنَّ المثوَى هو المنزلُ والمكانُ الذي يستقرُّ فيه الإِنسانُ الحيُّ نحوَ (هذا مَثْوَى الضيوفِ الكِرامِ) ، و(ثوَى الضيفُ عندي) ، ويكونُ إِليه الإِنسانُ المَيْتُ نحوَ (هذا مَثوَى الراحلين). ويكونُ للمحسنِ نحوَ قولِه تعالى: ﴿...قالَ مَعاذَ اللٰهِ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ ...﴾ [يوسف/٢٣] ، ويكونُ للمسيءِ نحوَ قولِه تعالى: ﴿ادخُلوا أَبوابَ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها فَبِئسَ مَثوَى المُتَكَبِّرينَ﴾ [غافر/٧٦].
أَمَّا (المأوَى) فهو المكانُ الآمنُ بالرحمةِ للمحسنين فقط في الحياةِ الدنيا نحوَ قولِه تعالى: ﴿أَلَم يَجِدكَ يَتيمًا فَآوى﴾ [الضحى/٦] ، وقولِه تعالى: ﴿ولمَّا دخلُوا عَلى يوسُفَ آوى إِلَيهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنا أَخوكَ فلا تَبتَئِس بما كانوا يعملُونَ﴾ [يوسف/٦٩] ، وقولِه تعالى: ﴿إِذ أَوَى الفِتيَةُ إِلَى الكَهفِ فَقالوا رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً وَهَيِّئ لَنا مِن أَمرِنا رَشَدًا﴾ [الكهف/١٠] ، أَو في الحياةِ الأُخرى نحوَ قولِه تعالى: ﴿أَمَّا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُم جَنّاتُ المَأوى نُزُلًا بِما كانوا يَعمَلونَ﴾ [السجدة/١٩] ، أَو للمكانِ الذي يظُنُّه المسيئون أَنه الأَحسنُ لهم في الحياةِ الدنيا نحوَ قولِه تعالى: ﴿قالَ سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعصِمُني مِنَ الماءِ ...﴾ [هود/٤٣]. ولم يرد لفظُ (أَوَى) ومشتقاتُه في القرآنِ الكريمِ لِما هو موقعُ عذابٍ وعقابٍ في الحياةِ الدنيا ، بلِ اختُصَّ بهذه الدَّلالةِ السياقيةِ (للمسيئين) في الحياةِ الأُخرةِ في (اثنَي عشرَ) موردًا بواقعِ (مأواهُمُ النارُ) في (أَربعةٍ) منها نحوَ قولِه تعالى: ﴿لا تَحسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا مُعجِزينَ فِي الأَرضِ وَمَأواهُمُ النَّارُ وَلَبِئسَ المَصيرُ﴾ [النور/٥٧] ، وبلفظِ (مأواهُمُ النارُ) في (ثمانيةٍ) نحوَ قولِه تعالى: ﴿فَأَمّا مَن طَغى ، وآثَرَ الحَياةَ الدُّنيا ، فَإِنَّ الجَحيمَ هِيَ المَأوى﴾ [النازعات/٣٧-٣٩].
إِذًا بحسبِ الاستعمالِ القرآنيِّ دلاليًّا يكونُ (المثوَى) ، و(المأوَى) للمكانِ المنزولِ فيه على حدٍّ سواءٍ ، لكنَّ الفرقَ الدَّلاليَّ الواضحَ بينهما أَنَّ (المثوَى) يكونُ للمكانِ الطيبِ ، وللمكانِ السيِّءِ في الدنيا والآخرة. أَمَّا (المأوَى) فيكونُ لمكانِ الرحمةِ حقيقةً أَو ظنًّا في الدنيا والآخرةِ ، ولمكانِ العقابِ والعذابِ الأَليمِ في الآخرة فقط. واللٰهُ أَعلمُ.
أ.د. علي عبدالفتاح الحاج فرهود