كتب الإعلامي والباحث الموريتاني الدكتور سيد أحمد ولد الامير قائلا :
أثناء جمع مادة مقالاتي المتعلقة بمسار التعليم النظامي في بلادنا وقفت على نص مفيد وجزيل للمرحوم الدِّي ولد الزين المستشار وممثل موريتانيا في الاتحاد الفرنسي، وكان رحمه الله قد قدم في نهاية سنة 1948 إلى هذه الهيئة الاستشارية عدة مقترحات ذات طابع تربوي وتنموي وخدمي على شكل عريضة مطلبية، ومن بينها إنشاء معهد للدراسات الإسلامية بموريتانيا منوطٍ بتكوين القضاة ممن سيكلفون بالحكم وفق الشريعة الإسلامية في عموم مناطق إفريقيا الغربية الفرنسية وإفريقيا الاستوائية الفرنسية، كما طلب الدِّي في الجانب التنموي العمل على ترقية التنمية الاقتصادية في موريتانيا من خلال ثلاثة ملفات هي: أولا تطوير المصادر المتاحة من تمنية حيوانية ومحاصيل زراعية وثروة سمكية، وثانيا بدءُ برنامج بحث عن المعادن في موريتانيا، وثالثا: إنشاء منفذ بحري خاص بموريتانيا ينبغي أن يستقطب شبكات من الطرق الداخلية. هذا النص وهذه المطالب تدل على وعي صاحبها واعتنائه في فترة الاستعمار بمصالح البلد العامة والسعي لخدمة السكان قد دفعتني إلى تعميق البحث حول هذه الشخصية المتميزة.
مسار تعليمي ناجح وممارسة سياسية وطنية
خصصت جريدة "الحياة الموريتانية" نصف الشهرية التي كانت تصدر في سان لويس بالسنغال عن الإدارة الفرنسية التي تحكم موريتانيا ثلاثة أعداد للحديث عن الدِّي ولد الزين. وسوف نقتصر على بعض المعلومات المفيدة التي ساقتها هذه الجريدة عن هذا الرجل الفذ، كما سأوظف بعض المعلومات التي استقيناها من مصادر شفهية.
وُلد الدي ولد الزين بتجݣجه سنة 1917، وهو ينتمي لبطن تميلَّه من إدوعلي أبا وأما، فأبوه أحمدْ ولد الزين ولد أحمد جدُّو ولد محمد ولد خيري وأمه امَّيْنَه بنت محمد الأمين ولد عبد الرحمن ولد سيدي ولد مولود، فجمع بذلك بين فرعين من هذا البطن المعروف بمكانته وتأثيره.
كان عمه الإمام ولد الزين من أوائل من انخرطوا في المقاومة الوطنية غداة وصول الفرنسيين لموريتانيا، فقدم إلى تجݣجة مكلفا بمهمة سرية من طرف الشيخ ماء العينين تقتضي الاتصال ببعض الأعيان وخاصة محمد المختار ولد الحامد الذي كان على صلة مع الفرنسيين حينها، وذلك تحضيرا لحصار قلعة المستعمر في تجݣجة 1906. وكللت هذه المهمة بالنجاح كما حصل في الدور البارز الذي لعبه محمد المختار ولد الحامد في خذلان الفرنسيين والانضمام للمقاومة يوم النيملان وخلال الحصار. وقد ظل الإمام ولد الزين إلى جانب الكثير من القادة والأعيان، تحت قيادة الشريف مولاي إدريس الذي انتدبه الشيخ ماء العينين لتولي الجهود العسكرية، يقفون في وجه الفرنسيين.
أما عمه المؤرخ والقاضي والفقيه سيدي ولد الزين فكان شيخ بطن تميلَّه، وكان غاية في الذكاء والتدبير؛ حيث ظل على علاقة وثيقة بأخيه الإمام وبغيره من مناهضي الفرنسيين بموريتانيا وفي نفس الوقت ظل يدبر شأن قبيلته دون أن يثير ذلك انتباه الفرنسيين الذي لم يكونوا يخفون شكهم فيه وريبتهم تجاه نواياه المعادية لهم. ومع ذلك ظل سيدي، بحكم كونه زعيمَ عشيرته، قادرا بعناية على ضبط إيقاع علاقته بالفرنسيين رغم شكوكهم فيه. وقد تم تعيين سيدي نائبا للقاضي الطالب محمد ولد اخليفه الذي طلب بعد تقدمه في السن إعفاءه من مهمة القضاء فتم تعيينُ نائبه سيدي قاضيا عاما لتجݣجه في يونيو 1920، وظل في هذه الوظيفة حتى وفاته يوم 26 سبتمبر 1936. وعندما تولى سيدي القضاء آلت رئاسة بطن تميله إلى أخيه أحمدْ (والد الدِّي).
في هذه الوسط الاجتماعي الذي يجمع رجالاته بين السلطة الزمنية وخطة القضاء والتدبير السياسي والمكانة الاجتماعية نشأ الدي ولد الزين وتربى، فأخذ وهو فتى يافع القرآن الكريم والفقه ومتونه واللغة العربية وعلومها في قصر تجݣجه وعلى شيوخها وفي محاظرها. وعند بلوغ الخامسة عشرة من عمره دخل مدرسة تجݣجه النظامية وذلك سنة 1932 بوصفه أحد أبناء الشيوخ. ولذكائه الحاد فقد سُمِح للدي وهو في السنة الأولى من تحصيله في المدرسة النظامية بتجݣجه باجتياز الامتحان الذي خوله دخول مدرسة بوتلميت سنة 1933. وقد توجت دراسته في بوتلميت بشهادة ختم الدروس العربية والفرنسية التي نالها سنة 1936 بوصفه أول تلميذ من منطقة تݣانت يحصل على دبلوم من المدارس النظامية الحديثة النشأة بموريتانيا.
ولم يتخل الدي ولد الزين، وهو بعيد من تجݣجه، عن التضلع من العلوم الشرعية والتعمق في اللغة العربية، فأخذ وهو في بوتلميت عن أشياخ مشهورين من بينهم العلامة محمدُّو ولد عبدِ الله الجكني المتوفى سنة 1949، ففي الجزء الثاني من كناش محمدُّو ولد عبدِ الله الشهير بلقبه تَبُّو وفي الفصل الذي عنوانه "مراثي اباه" وفي الصفحتين 473-474 نسخة من مرثية الدِّي ولد الزين للعلامة يحظيه ولد الودود الجكني وهي بخط محمدُّو ولد عبدِ الله الجميل، وقد ذكر في بدايتها ما لفظه: "قال السيد البليغ المبرز الدِّي بن أحمد بن الزين العلوي التججݣي يرثي شيخنا يحظيه بن عبد الودود". وقد ظل الدي على صلة بهذا الشيخ الجكني الجليل في بوتلميت من 1933 إلى 1936، ولا شك أن مدينة أطار جمعتهما بعد ذلك من 1936 إلى 1939 حين كانا يُدَرسان بهذه المدرسة.
ولكون الدِّي سنة 1936 كان قد قارب العشرين سنة فإن تلك السن المتقدمة لم تكن تسمح له بولوج الإعدادية فتم تعيينه معلما عقدويا في مدرسة أطار، فأبان عن كفاءة تربوية عالية، وعن مقدرة متميزة على أداء مهمته. ولم يلبث الدِّي ثلاث سنوات في أطار حتى تقدم لامتحان المترجمين سنة 1939 فنجح بامتياز وتم تحويله ترجمانا في مدينة شنقيط.
بين الممارسة السياسية وتمثيل موريتانيا المشرف
انخرط الدي ولد الزين مبكرا في العمل السياسي، وقد ظل في ممارسته السياسية واعيا بحجم الإكراهات والضغوط التي يمارسها الفرنسيون على ساكنة البلاد ومعبرا في أكثر من مناسبة عن امتعاضه من ذلك وساعيا إلى رفع ذلك الإجحاف والظلم، وهو ما لم يرق للإدارة الفرنسية. ولا شك أن بيئته الاجتماعية وتنشئته في أسرة كانت علاقتها غير منسجمة مع الفرنسيين كان له تأثيره في صياغة الكثير من مواقفه، فقد مر بنا أن عمه الإمام ولد الزين كان من مناوئي الوجود الفرنسي في هذه البلاد ومن الساعين لمواجهة ذلك الوجود.
انتمى الدي ولد الزين للتيار السياسي الملتف حول النائب أحمدو حرمه ولد ببانه. وكان من تلك النخبة من القيادات الشابة والتي تنتمي لمختلف الجهات والعرقيات الموريتانية التي شكلت وعيا وطنيا يرفض أصحابه اضطهاد الإدارة الاستعمارية للشعب ويطالبون بتحسينات و إصلاحات من شأنها تغيير تلك الأوضاع.
وكان الاتجاه السياسي الذي ينتمي له الدي ولد الزين في أربعينات القرن الماضي يواجه في كثير من الأحيان سلطة شيوخ القبائل ورموز المجتمع التقليدي؛ غير أن حكمة الدي ولد الزين وعلاقاته المتوازنة مع جميع اللاعبين السياسيين الموريتانيين داخل ذلك التيار السياسي وخارجه كانت سببا في إعطاء اللعبة السياسية المحلية في أربعينات القرن الماضي إيقاعا تفاهميا. والواقع أن الدي ولد الزين كان محببا ومقبولا وعنصر إجماع ليس بين حلفائه ومن يشاركوه نفس التوجه السياسي فحسب بل أيضا بين منافسيه ومن هم بعيدون منه في الرؤية السياسية. فقد حدثني من عرف الدي رحمه الله في تلك الفترة الزمنية ومن كان على نقيض معه في الممارسة السياسية كيف كانت علاقات الدي بالوسط السياسي الموريتاني فيها كثير من الإنسانية والمودة والتآلف، مع أنه لم يكن يجامل ولا يداهن في موقفه من الإدارة الفرنسية الاستعمارية وممارستها التسلطية.
في سنة 1946، وخلال الانتخابات المحلية، تقدم الدِّي للترشح عن الدائرة الثالثة (العصابة-تݣانت) فنجح في الدور الأول. وفي 10 مارس 1948 تم اختياره مستشارا عن موريتانيا في الاتحاد الفرنسي الذي تأسس في 3 نوفمبر 1947م وكان الدِّي ولد الزين أول عضو موريتاني في هذه الهيئة الاستشارية، وقد قدمه لذلك المنصب القسم الفرنسي من الأممية العمالية (SFIO) وهو حزب سياسي اشتراكي فرنسي.
أصبح الدِّي ولد الزين من أبرز الأعضاء الفاعلين خلال السنة الوحيدة التي قضاها عضوا في هذه الهيئة الاستشارية المقسمة إلى نصفين: نصفٍ من الفرنسيون ونصفٍ يمثل المستعمرات، وهذه الهيئة منوطة بدور استشاري حيث تقدم مذكرات وعرائض تتضمن مطالب الشعوب ورغباتها واحتياجاتها للحكومة وللبرلمان الفرنسيين دون أن يكون لها دور تشريعي أو تنفيذي.
قدم الدِّي ولد الزين أكثر من عريضة حول التمدرس في موريتانيا، فتم إنشاء العديد من المدراس على إثر ذلك، كما قدم مذكرة خاصة بتيشيت التي كانت سنة 1948 في حاجة ماسة لدعم تنموي نتيجة غزلتها. وطالب بإنشاء طريق بين لتفتار وتجݣجه، وهو ما من شأنه أن يربط بين الكثير من الأحياء وينعش التبادل التجاري في وسط موريتانيا، كما قدم الدي مشروعا لدعم الجماعات المحلية.
ومن أبرز مذكرات الدي التي قدمها للحكومة الفرنسية مطالبته بإنشاء معهد للدراسات الإسلامية بموريتانيا منوطٍ بتكوين القضاة سيكلفون بالحكم بالشريعة الإسلامية في عموم مناطق إفريقيا الغربية الفرنسية وإفريقيا الاستوائية الفرنسية. وفي نفس السياق طلب الدِّي ولد الزين في الجانب التنموي بالعمل على ترقية التنمية الاقتصادية في موريتانيا من خلال ثلاثة ملفات هي: أولا تطوير المصادر المتاحة من تمنية حيوانية ومحاصيل زراعية وثروة سمكية، وثانيا بدءُ برنامج بحث عن المعادن في موريتانيا، وثالثا: إنشاء منفذ بحري خاص بموريتانيا ينبغي أن يستقطب شبكات من الطرق الداخلية.
وفاة الدي ولد الزين.. اللغز المحير
لم تمهل المقادير السياسي الفذ والمناضل الشجاع الدِّي ولد الزين لمتابعة مقترحاته البناءة؛ حيث توفي بشكل مفاجئ في حادث سير قرب مدينة تولون بجنوب فرنسا في 4 مارس 1949 تاركا وراءه ذكرى طيبة وصورة لسياسي جاد في مهمته مؤمن بالمصلحة العامة.
وقبيل وفاته كان الدي قد اشترى سيارة شخصية وسافر فيها نحو جنوب فرنسا، وكان يسوق به أثناء الحادث سائقُ صديقه السياسي النيجري يوسفو سيدو زرماكويْ المتوفي سنة 2000. وكان يوسفو زرماكوي، وهو من بيت الزعامة في مجموعة زَرْمَا العرقية الثانية في النيجر، يتحدث بكثير من الإعجاب عن الدي ولد الزين وعن أخلاقه وعن تفانيه في العمل للمصلحة العامة. ومن المعلوم أن يوسفو زرماكوي كان قد انتخب، شـأنه في ذلك شأن الدي، في الاتحاد الفرنسي في 13 نوفمبر 1947، وشغل هذا المنصب حتى عام 1958.
واللافت للانتباه أن موت الدي ولد الزين، وهو مستشار لامع في هيئة استشارية تجمع العديد من الأعضاء من الفرنسيين ومن المستعمرات الفرنسية وكان له حضور قوي بهذه الهيئة الدستورية، مرت وفاته في الصحافة الفرنسية بداية مارس 1949 وكأنها حدث عارض وأمر طبيعي، مما يجعل التساؤل عن سبب هذا التجاهل وعن معناه. لم تزد الصحف الفرنسية على سطر واحد بخصوص وفاته فلم تزد على قولها: إن الدي ولد الزين مستشار موريتانيا قد توفي قرب تولون في حادث سير.
كيف جرى حادث السير الذي أودى بحياة الدي ولد الزين، وما هي ظروفه، ولما ذا سكتت الصحف الفرنسية المشهورة بتقصيها للمعلومات وتحريها لما وراء الخبر عن تلك التفاصيل المتعلقة بوفاة عضو نشط في القسم الفرنسي من الأممية العمالية (SEFIO)؟
وعموما، وفي غياب وثائق تدين الفرنسيين بتدبير وفاة الدي ولد الزين، يبقى التساؤل حول ظروف ذلك الحادث المؤلم واردا، خصوصا وأن المقربين من الدي شككوا في ظروف وفاته، نظرا لأنه كان الظهير السياسي الأبرز للنائب أحمد ولد حرمة التي تبغضه الإدارة الفرنسية و كانت تسعى إلى سد الطريق أمامه.
وبعد وفاة الدَّي ولد الزين رحمه الله كان من الضروري اختيار مستشار يحل محله في الدائرة الثالثة (العصابة-تݣانت)، وشخصية أخرى تكون مستشارا في مجموعة الاتحاد الفرنسي. وبالنسبة للملف الأول تم إجراء انتخابات تكميلية خاصة بمستشاري المجلس العام بموريتانيا في الدائرة المذكورة، وكان شوطها الأول في 8 مايو 1949 والثاني في 29 من نفس الشهر من أجل اختيار مستشار الدائرة الثالثة. تقدم عن حزب الوفاق "حزب الوئام" الترجمان محمدي ولد دحود، وهو من المقربين من النائب الموريتاني أحمدُّو ولد حرمه ولد ببانا، أما المرشح الثاني فكان البيطري المالي الموظف بكيفة سيدَّا مَحَمَانْ الذي رشحه الحزب التقدمي الموريتاني المقرب من الإدارة الفرنسية. وقد فاز محمان على محمدي بفارق 1343 صوتا، فتقدم محمدي في نهاية مايو بطعن أمام المحاكم في سان لويس، وقد اتهم ولد دحود الحاكم الفرنسي بكيفه غابريل فيرال ورئيس مركز امبود الإداري غوجيه (Gauger) بتزوير الانتخابات لصالح سيدَّا محمان. كما نشر محمدي مقالا في جريدة "باريس-موريتانيا" لسان حال حزب الوئام ذكر فيه نقاطا ستا جسدت تدخل فيرال وغوجيه لصالح محمان. وفي المقابل رفع الفرنسيان فيرال وغوجيه شكوى ضد محمدي كاتب المقال وضد النائب أحمدو ولد حرمة التي تصدر الجريدة باسم حزبه. وقد تدخل عبد الله ولد الشيخ سيديا للتهدئة بين الأطراف المختلفة فدعا الجميع إلى بوتلميت، وقد تمت تسوية القضية التي كانت قد زادت من سخونة صيف 1949 في موريتانيا.
وبالنسبة للملف الثاني وهو اختيار مستشار في مجموعة الاتحاد الفرنسي فقد وقع الرأي على عضو حزب الوئام ونائب الزعيم أحمدو ولد حرمه انْجَوَرْ صار بديلا للمرحوم الدي ولد الزين، وقد استمر انجور صار في تلك الوظيفة حتى سنة 1953؛ حيث تم انتخاب سليمان ولد الشيخ سيديا عضو حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني مستشارا في مجموعة الاتحاد الفرنسي في انتخاباتها الثانية التي تمت في 10 أكتوبر 1952.
وقد تم نقل جثمان الدِّي رحمه الله بعد وفاته بتسعة أشهر ودفن في مقبرة تجݣجه، وقد حرصت جريدة "الحياة الموريتانية" في عددها الثالث والعشرين الصادر بتاريخ 15 فبراير 1950 أن ترصد ذلك الحدث التاريخي، وأن تنشر الخطابات التي تم تقديمها بمناسبة نقل جثمان الدِّي إلى مسقط رأسه والتي من بينها خطاب مؤثر وعميق ألقاه أخوه القاضي سيدي عبد الله ولد الزين، وقد بين فيه أمورا عديدة من بينها الحكم الفقهي المتعلق بنقل الميت من مكان إلى آخر ومشروعية ذلك انطلاقا من نصوص الفقه المالكي والإشارات التاريخية المتعلقة بالنقل والتي استعرضها القاضي سيدي عبد الله في خطابه.
الدي ولد الزين وتاريخ ولد اعبيد الرحمن
ترك لنا الدِّي ولد الزين رحمه الله تعالى ترجمة رائعة لكتاب نادر وغاية في الأهمية وهو مختصر تاريخ صحراء إفريقيا لمحمد عبد الله (الشهير بلقبه بلاهي) ابن اعبيد الرحمن العلوي. ومع أن هناك نسخا من أصل هذا الكتاب باللغة العربية، إلا أن النسخة التي ترجم الدِّي ولد الزين أوفى وأكمل من النسخ المتاحة بالعربية كما أخبرني زميلي الدكتور عبد الودود (ددود) ولد عبد الله بذلك، وهو الذي اطلع على الصيغتين الأصلية العربية والصيغة المترجمة إلى الفرنسية.
وبين يديَّ نسخة الدِّي ولد الزين المترجمة لكتاب مختصر تاريخ صحراء إفريقيا وتقع في سبع وستين صفحة. وهذا الكتاب من حيث بنيته مكون من مقدمة في علم التاريخ وفائدته وبعدها ذكر المؤلف ولد اعبيد الرحمن الهدف من تأليفه الذي هو الكلام عن أنساب ساكنة الصحراء وعاداتهم، والحديث عن بداية أمر الملثمين الصنهاجيين في هذه البلاد وذكر أجداد البربر الذين انتشروا في الصحراء الإفريقية الغربية حيث توجد.
توسع المؤلف في الحديث عن حدود الغرب (شمال إفريقيا)، وعن نسب البربر وتفريعاتهم القبلية، وعن دخول الإسلام وولاة الدولة الأموية بشمال إفريقيا، وعرج على دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى ليصل إلى الحديث عن قيام دولة الملثمين الصنهاجيين. وقد تناول بعد ذلك جوانب من تاريخ الدول التي حكمت المغرب الأقصى وعلاقتها بساكنة الصحراء الشنقيطية مثل الموحدين والمرينيين والسعديين والشرفاء السجلماسيين.
وبعد ذلك عقد محمد عبد الله ولد اعبيد الرحمن فصلا لأنساب سكان الصحراء الغربية وتحدث عن تفريعات قبائل المعقل وقبائل الزوايا كما تحدث عن مجموعة النمادي. ويبدو أن المؤلف كانت بين يديه نصوص تاريخية موريتانية منها تآليف سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وتآليف تلميذه الطالب أحمد بن طوير الجنة الحاجي، وبين يديه -وهذا في غاية الأهمية- تأليف في أنساب القبائل الموريتانية للشيخ سيدي المختار الكنتي، فقد نقل منه وساق محاججات تناولته، وكتاب الشيخ سيدي المختار الكنتي في أنساب ساكنة هذه البلاد والذي كان من مراجع ولد اعبيد الرحمن كتاب نادر.
وفي الختام فتح المؤلف فصلا للعادات والتقاليد في هذه البلاد الشنقيطية وتقسماتها الاجتماعية، ويبدو أن ولد اعبيد الرحمن من المؤرخين الموريتانيين الذين يجعلون التقسيم الوظيفي التقليدي الثلاثي في المجتمع الشنقيطي (عرب، زوايا، لحمة) يعود لزمن المرابطين، وهو رأي نجده عنه سيدي محمد ولد حبت الغلاوي في كتابه عن الأنساب وعند سيدي أحمد ولد أسمهو الديماني في كتابه ذات ألواح ودسر.
وفي نهاية ترجمة كتاب مختصر تاريخ صحراء إفريقيا قام الدِّي ولد الزين بترجمة حوليات تيشيت في التاريخ وإلحاقها بكتاب ولد اعبيد الرحمن. وحوليات تيشيت تأليفها مشترك، فجزؤها الأول من تأليف محمد بن عمر بن محمد بن عشاي الماسني. وقد كمله في الجزء الثاني منها أحد أبناء أحمد بن محمدو بن أحمدو الملقب بدو بن أبي بكر الشهير بامباكَّه الكبير ابن بوبه الشريف الحسني التيشيتي.
الدي ولد الزين.. رائد التجديد في الشعر الموريتاني الحديث
اطلعت على جزء يسير من ديوان الدي ولد الزين أورده المؤرخ الجليل المختار ولد حامدٌ في موسوعته التاريخية، فضلا عن مرثيته للعالم المدرس يحظيه ولد عبد الودود الجكني التي أشرنا إليها آنفا والتي مصدرها كناش ومحفوظات محمدُّو ولد عبدِ الله الجكني.
وقد أخبرني الدكتور محمد ولد مولود بوجود أشعار الدي ولد الزين الفصيحة والحسانية عند حفدته ولم أطلع عليها مع الأسف لكن سأورد هنا بعض النصوص التي جاءت في موسوعة ابن حامدٌ، ومن بينها قصيدة جميلة في الوصف لا تخلو من مسحة تجديدية تتجاوز الصياغات التقليدية في الوصف لتقدم الطبيعة بشكل أكثر أنسنة وتخييلا وألصق بقلب الشاعر وعالمه الداخلي منها:
إن أردت الجمالَ كلَّ الجمال * فتفرج في البدو خاليَ بال
وتنفس منه الهوى بصفاء * وتذكر من الهوى كل بال
وانظرنَّ للجبال وهْي حيارى * شاخصاتٍ إلى السماء العوالي
يفهم الشاعر السليم مقالا * من سكوت لها عجيب المقال
واسمع الطير نائحا وتأمل * حسن هذا الوجود حاوي الكمال
فهل التقى الدي ولد الزين بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي وبشعراء الطبيعة المجددين في عشرينيات القرن العشرين؟ ليس لدي ما يؤكد ذلك أو ينفيه، غير أن هذه القصيدة التي اقتصرنا على بعضها فيها نفس تجديدي يتقاطع في كثير من أخيلته ومخاطبته للطبيعة مع ما نجده في الشعر الحديث، ولا نجده عند معاصري الدي ولد الزين من الشعراء الشناقطة.
ومن مظاهر التجديد في شعر الدي ولد الزين احتفاله ببعض مظاهر التطور في الحياة الاجتماعية الموريتانية. فكما شاع شعر الشاي عند بعض معاصريه من الشعراء الموريتانيين من أمثال محمد ولد أبنو ولد احميدن الشقري، فإننا نجد الدي يتغنى بالقهوة ويتخذ منها موضوعا أدبيا لم يسبق له في تاريخ الشعر الموريتاني. يقول الدي مفضلا القهوة على الشاي:
كأسٌ رغت أطرافها فكأنها * لوْنَا عمامة ناسكٍ بدكار
عَلِّلْ أخاك بها وتاركْ معشرًا * يهجونها بالنظم والأنثار
إن لم تكن مثل الأتاي فإنما * يهجون "كافَه" بكافة الأشعار
وله في القهوة:
هُبِّي بها قهوة درات بتهذيب * وإن سئلت مَنِ النادي فنادي بي
إنسانُ عينٍ يروق العينَ حالكُها * سوداءُ في لَبَنٍ كالشَّيْب في الشِّيبِ
وخل عنك ملام اللائمين فما * شرب الأتاي سوى هم وتعذيب
تطفلٌ سفَه دينٌ إلى أجلٍ * وهُجْرُ قول خلا من كل تأديب
حسبي بـ"كَافَ" فما أنفك أشربها * إني لها رغم أنفٍ محضُ شِرِّيبِ
يرد عنها سواد اللون منقصة * والله يعلم ما في السود من طيب
فهذه النصوص أمثلة جميلة تعكس تجديدا في المضامين وصياغات وصورا لم تكن مألوفة في الساحة الشعرية المحلية، توضح تميز هذا الرجل على مستويات مختلفة.
خاتمة:
لم يعش الدَّي ولد الزين رحمه الله إلا اثنتين وثلاثين سنة، وهي فترة قصيرة جدا، إلا أنها كانت مليئة بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فقد مكن فيها لموريتانيا أيما تمكين، وقد كان حضوره مستشارا في مجموعة الاتحاد الفرنسي قويا وهادفا. وإلى جانب الدور السياسي المشهود والمشهور للدي فإنه كان شاعرا مفلقا. وقد بات من الضروري أن يعطى لهذا الرجل الفذ والمناضل الساعي في مصلحة البلاد العامة ما يستحقه من مكانة، فهو جزء من نخبة سياسية عملت ما في وسعها للتمكين لهذا البلد في سياق غير مساعد وفي ظروف تتسم بالكثير من الإكراهات فما زادهم ذلك إلا تصميما وإقداما ومثابرة. رحم الله الدين ولد الزين برحمته الواسعة.