يحكى أن طفلا موريتانيا كان خاملا لا يعبأ بأي شيء حتى ظن أهله أنه مصاب بنوع من العَتَه والبله ,بحيث لا تستهويه الالعاب والانشطة التي يمارسها أقرانه من الاطفال ,بل كان لا يرغب في الحركة ولا يكاد يفارق أمه ,بحيث يذهب معها أينما ذهبت ويجلس بجانبها أينما جلست ,وكان والده مستاء من تصرفاته تلك ويعتقد أنه ناقص العقل ولن يكون باستطاعته التعلم ولا فهم أي شيء.
ولما بلغ الخامسة من العمر ,ساء والدته أن ابنها لا تبدو عليه علامات الذكاء التي تمكنه من الالتحاق بالمحظرة كما هو حال مَن هم في عمره ,ومع ذلك ألحّت على والده أن يذهب به الى شيخ المحظرة لعل وعسى.
خضع أبوه لرغبات أمه ـ رغم يأسه التام ـ وقام باصطحابه إلى شيخ المحظرة وطلب منه أن يوليه عناية خاصة لعل الله يفتح عليه ويتعلم شيئا من القرآن.
بدأ الشيخ يكتب له الحروف الهجائية ,ولاحظ أنه يستوعبها من الوهلة الاولى لكنه شارد الذهن مع ذلك وغير منتبه لأي شيء ,وبعد أن أنهى تعلم الحروف الهجائية ,بدأ الشيخ يكتب له الحروف مع حركاتها :
ءا...ءو....ءي...كما جرت بذلك العادة وفي اليوم الموالي كتب له : با....بو...بي ,فسأل الطفل معلمه :
هل با .....بو...بي هذه تشبه في طريقتها ءا....ءو....ءي.. التي علمتني بالامس ,ومثلها بقية الحروف؟ ,أجاب الشيخ : نعم يا ولدي ,فكل الحروف بنفس القاعدة ,قال الطفل :
إذاً ,علمني غيرها ولا "اتفتَرْ راصك واتفترني ابشِ بسيط كيفت هذا" ,فذُهِل الشيخ من ذكاء الطفل وسرعة بديهته وشدة انتباهه وفهمه ,إذ لم يسبق له أن رأى أو سمع عن طفل في مثل هذا الذكاء والنباهة ,بحيث يتعلم حركات الحروف كلها في يوم واحد ويستوعب القاعدة التي تشملها جميعا.
في اليوم الموالي ,كتب له سورة "سبح اسم ربك" ,ولما بلغَ سورة التكاثر كتب له الشيخ في لوحه :
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) فلما بدأ يقرأها ,لاحظ الشيخ أن الطفل يبكي بكاء شديدا وينتحب ويغطي وجهه باللوح ,فناداه وسأله لمَ تبكي يا بني ,هل لديك مشكلة؟
فقال له : أبكتني هذه الآيات ,فقال الشيخ : عجبا لك!!
كيف بك لو قرأتَ بقية السورة ,قال وما بقيتها سيدي ,قال :
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) وما كاد يكملها حتى سقط الطفل مغشيا عليه.
عندها علم شيخ المحظرة ووالدا الطفل أن الله قد آتاه فهما وعقلا لم يحظَ بهما الاطفال في سنه ,وقد صدق ظنهما ,فلقد كان هذا الصغير فيما بعد عالما ورعا زاهدا صواما قواما ,لا تفارق الدموع عينيه من خشية الله.
والمثل يقول : "الشوكة من سغرها امحدة"
كتب القصة محمد محمود محمد الامين للنشر في موقع الجواهر