إلى أخي وصديقي ادِّي ولد أعمر
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
ثالثا: لنهرع جميعا إلى ساحة الجمهورية!
من تقاليد الديمقراطيات التي أصبحنا عضوا في ناديها الحضاري العتيد منذ أن نجحنا في تنظيم تداول سلمي حر وشفاف جدا وهادئ للسلطة، وفي جو طبعه عموما تحجيم لافت لتأثير المال على قناعات الناس، أنه قد جرى في فرنسا في بداية هذا القرن ما يلي، وكنت شاهد عيان عليه:
ففي 21 إبريل سنة 2002 جرى الشوط الأول من الانتخابات الرئاسية هناك؛ وكان التنافس فيه محتدما وحادا جدا بين المرشحين الكبار، وكانت المصالح محل الصراع ضخمة ومتناقضة ومتضاربة جدا.
لم يكن من بين المرشحين الكبار رئيس وزراء أسبق، ولا وزير دفاع سابق، كما حدث عندنا. بل كان المتنافسان الرئيسيان هما رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، الديغولي جاك شيراك، ورئيس وزرائه آنذاك الاشتراكي يونالد جوسبين. وكان هناك مرشحون آخرون من بينهم رئيس الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة جان ماري لوبين. وبفضل تقدم وسائل الفرز في فرنسا، جرت العادة أن يرتقب الناس أمام وسائل الإعلام تمام الساعة الثامنة مساء يوم الاقتراع بالضبط؛ حيث تظهر لهم النتائج على شاشاتها مباشرة! وبينما كان الحزبان الكبيران المتعايشان في السلطة في قصري الأليزى وماتنيون يحشدان قواهما ويحبسان أنفاسهما ترقبا للنتائج، وكلاهما متأكد من تنظيم شوط ثان بين مرشحيهما، نزل النبأ العظيم صاعقة على الفرنسيين عموما، وعلى اليسار خصوصا: لقد حصل الرئيس جاك شيراك على نحو 20 % ويليه جان ماري لوبين حاصدا نحو 17% وحل رئيس وزراء فرنسا الاشتراكي يونالد جوسبين في المرتبة الثالثة بنسبة 16% فخرج نهائيا من السباق!
فما ذا كان رد الفرنسيين عموما، والاشتراكيين منهم واليسار الفرنسي خصوصا على هذه الكارثة الانتخابية التي حلت بهم؟ لقد كانوا عمليين جدا، فلم يتذرع أحد منهم بالتزوير، ولم يرفض أحد النتائج للحظة؛ ولكنهم هرعوا جميعا في حشود كبيرة على الفور إلى ساحة الجمهورية وحناجرهم تصدح بالنشيد الوطني الفرنسي (المارسييز) حيث عقدوا مهرجانا ضخما أعلنوا خلاله رغم عمق خلافاتهم الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية أنهم سيحشدون قواهم ويصوتون جميعا في الشوط الثاني للرئيس جاك شيراك ويهزمون مرشح الجبهة الوطنية العنصرية. وذلك حفاظا على قيم وثوابت الديمقراطية والجمهورية المشتركة بينهم! وقد نفذوا ما أعلنوه فعلا في الشوط الثاني يوم 5 مايو، حيث فاز جاك شيراك بنسبة فاقت 82 % ولم يتجاوز جان ماري لوبين 17 % التي حصل عليها في الشوط الأول!
تذكرت هذا الدرس السياسي الكبير وأنا أتدبر نتائج انتخاباتنا الرئاسية؛ وخاصة حلول رئيس منظمة إيرا العنصرية، السيد بيرام ولد الداه، في المرتبة الثانية بفارق طفيف يفصله عن الوزير الأول الأسبق سيد محمد ولد ببكر!
ورغم أن الوضع الذي نعيشه اليوم في موريتانيا يختلف تماما عما عرفته فرنسا مساء 21 ابريل 002، إذ قد فاز مرشح الأغلبية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في الشوط الأول، فلم تعد توجد حاجة لتنظيم شوط ثان، ولا إلى تحالفات بين القوى الديمقراطية لسد الطريق في وجه فوز مرشح غير ديمقراطي! إلا أن طبيعة بعض نتائج الشوط الأول تدعو بإلحاح شديد جميع الوطنيين والديمقراطيين والمؤمنين الصادقين في موريتانيا - أيا كانت مشاربهم- إلى أن يهرعوا إلى ساحة الجمهورية تأسيا بما فعله الفرنسيون سنة 2002 وذلك ليكافحوا العنصرية وأسبابها، ويبنوا سدا منيعا كسد ذي القرنين في وجه تفشي العنصرية والتطرف والغلو بين جماهير شعبهم، ويجتثوا عوامل الداء من جذورها.
إن علينا أن نستخلص الدروس والعبر من نتيجة إيرا في بعض المدن الكبرى (انواذيبو انواكشوط مثلا) وفي بعض ولايات الضفة (غورغول وغيدي ماغا) من جهة، ومن تصويت فئات قومية ترفع شعار "العيش المشترك" ضد الوحدة الوطنية والعيش المشترك، من جهة أخرى!
قد يحاول بعضهم أن يعيدني إلى "الصواب" فيقول إن "إيرا" لم تعد عنصرية ولا متطرفة، وإن السيد بيرام قد أصبح لديه خطاب سياسي معتدل جديد، ويدعو إلى التهدئة والحوار! وإني لأجيبه بما يلي: أتمنى ذلك من كل قلبي! فأنا أعرف السيد بيرام حق المعرفة؛ فهو صديقي، وأتابع حركته عن كثب منذ نشأتها إلى الآن، ولم أعثر له في يوم من الأيام - كسائر أطياف طبقتنا السياسية- على نقد ذاتي يعلن فيه تراجعه وتوبته مما اقترفه في حق مكونة أساسية من مكونات الشعب الموريتاني سبَّها وشتمها وقذف علماءها ورموزها وداس معتقداتها ودعا صراحة إلى إبادتها إبادة جماعية، ونشر الكراهية والتفرقة بين مختلف شرائحها على أساس عنصري عماده لون البشرة لا غير! ... وما دام مثل هذا النقد الذاتي غائبا، فإن من حقنا أن نحكم على طبيعة إيرا من خلال خطابها الرسمي الذي بأيدينا على مدى سنوات! وما يجوز على إيرا يجوز على افلام، وعلى ائتلافها الذي تقود أيضا!
فالتزكية بالتصويت في الانتخابات على أساس لون البشرة أو الانتماء إلى عرق، هي - في حد ذاتها- ردة وكفر بجميع المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية التي وصلت إليها البشرية عبر نشوئها وارتقائها الدائب.. واستسلام مَقيت لحمية وعصبية الجاهلية الأولى، وتعبير صريح عن التردي في درك الأمية السياسية والحضارية! وهي - فوق هذا وذلك- رفض صارخ للعيش المشترك، وتكريس وتأكيد وتجديد لدعوات الانفصال والحرب الأهلية والإبادة الجماعية! ثم إنها - أيضا وأيضا- جحود ونكران لجميل جيل من الرجال والنسا الوطنيين من جميع مكونات وأطياف شعبنا، الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل العيش المشترك ورأب صدع الوحدة الوطنية والاعتصام بحبل الله وحبل الوطن، وأقاموا المشاريع والبنى العملاقة والخدمات الهائلة خلال العشرية الأخيرة بغية فك العزلة ونبذ التهميش وتحقيق العدل والمساواة والازدهار للوطن، كل الوطن. ولا يمكن أن يكون دافع هذه الردة السحيقة ومحركها الأساسي - في أحسن الاحتمالات- إلا الميل إلى المصالح الشخصية ومحاولة التسلق على أكتاف عرق أو لون أو شريحة، والإمعان في استثمار المآسي الاجتماعية والغرائز العفوية البدائية في خدمة ذات غير سوية!
يتبع