كنتُ خارجا للتو من صلاة التراويح ...
كان الشيخ اسماعيل ــ وهو إمامنا في التراويح ــ يتمتع بصوت شجي وخشوع نادر لا تشعر معه بمضيّ الوقت حتى ولو أطال...
قراءتُه وطريقته في صلاة التراويح وقيام الليل تدلان على أن الرجل يتذوق حلاوة ما يقرأ ,حيث يتدبر كل آية...ويتلذذ بكل كلمة...
ويستعيذ كلما مرّ بآية من آيات الوعيد أو العذاب ...ويسأل الله من فضله عند قراءة آيات الرجاء والرحمة اتباعا لسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم...
يطيل الركوع والسجود...يُسمَعُ نحيب بكائه بوضوح...
أنهى الشيخ إسماعيل التراويح بعدما يزيد على الساعتين ونيّف...
خرجتُ من الصلاة مُتعبا...يعضُّني الجوع الشديد بأنيابه..خاصة انني من الذين لا يتجاوزون بضع تمرات وحساء "شوربة" وكأسا من الشاي في وجبة الافطار.
عند خروجي من المسجد وفي طريقي الى السكن القريب من الجامع , لاحظتُ صديقي أحمد من بعيد وهو يرتدي ملابس العمل ..
كان في قمة الاناقة تحت الاضواء الكاشفة...فارعَ القامة...مبتسما ..متهللا...يتحدث مع صديقنا مصطفى...
سمعتُه يقول بصوته الجهوري : 
لقد تأخرتُ الآن عن عملي ...غدا سأخبرك بكل شيء...
كان شابا محبوبا...مرِحا...لا تفارق الابتسامة محياه...
وصلتُ للسكن...تناولتُ وجبة "أطاجين" ...شربتُ كأسا من الشاي....
لاحظتُ صديقي عبد الله يمر بالقرب منا مسرعا ثم يعود مسرعا كذلك...قلت في نفسي : لا بد أن في الامر سرا...
أسرعتُ في أَثَره...ناديته..أبطأَ السير قليلا...
سألته : ما الامر ؟
قال : أحمد!!!
ما به؟؟
نقلوهُ الآن من مقر عمله الى المستشفى بصورة عاجلة...
قلتُ : لا تخفْ...فلربما فاجأته الزائدة الدودية "المصران الزايد" فمِن علاماته أنه يفاجئ الانسان دون سابق إنذار...قال : يا رب....يا ليتها كانت الزائدة الدودية فقط...
قلت : دعنا نكمل الشاي ثم نذهب اليه في المستشفى للاطمئنان على صحته...
دخلنا جناح الحالات المستعجلة...سألنا عن أحمد....أدخلَنا أحد الممرضين عليه....
فوجئنا بأنهم غطّوا جسمه برداء أبيض...كاد قلبي يخرج من صدري لهول المنظر...اقتربتُ ....مددتُ يدي المرتعشة...كشفتُ الغطاء عن وجهه!!!
.......................................
لم أتمالك نفسي....دخلتُ في نوبة بكاء وعويل حتى اضطر الطاقم الطبي أن يُخرجني من القسم كله...
علمتُ بعد ذلك أن صديقي المرحوم أحمد بمجرد وصوله الى مقر عمله , واستلام مهام وظيفته , قام بالاتصال على زوجته التي لم يمضِ على زواجه منها أكثر من أسبوعين..
خرج من المكتب... وهو يتحدث معها ويضحك كعادته ـ كما روى أحد زملائه ـ وفجأة سقطَ من طوله ميتا...حيث أكد الاطباء الذين عاينوه أن سبب وفاته سكتة قلبية مفاجئة بسبب ارتفاع حاد في ضغط الدم ناتج عن تناول طعام مرتفع الملوحة في وجبة الافطار.
كانت زوجته تناديه...تستجديه أن يرد عليها...تعاتبه...تقول بصوت ـ سمعه الحاضرون : ماذا شغلك عني...أنا أعرفك..ثم أقفلت الهاتف ظنا منها أنه مشغول عنها بأمر ما....ربما لعبت الغيرة برأسها....شأن كل النساء!!!
إذا كان موت الشباب مؤلما فإن الموت المفاجئ أشد إيلاما ووقعا على النفس....فلنُهيّئْ أنفسنا , ولنكن على أهبة الاستعداد للرحيل , فلسنا ندري متى ولا كيف ولا أين!!

 

بقلم/ محمد محمود محمد الامين

خاص بموقع الجواهــــر