حديث ذكريات جميلة للعلامة الشيخ الددو

خميس, 06/08/2020 - 13:45

وفي هذه الفترة أيضا يبدأ الأطفال في حفظ بعض المختصرات العقَدية ودراستها، وتُستغَلّ الإجازتان السنوية والأسبوعية في مراجعة ما حفظوه من القرآن، وتكون الإجازة السنوية غالبا في رمضان أو ربيع الأول، وكذلك إجازتا عيديْ الفطر والأضحى، فلهذه الإجازات برامج للأطفال يحرص أمهاتهم على تطبيقها.

وفي هذا البرنامج تكون عادةً بداياتُ التعرف على الشعر وبالأخص الشعر الجاهلي، ومن مقرراته آنذاك: قصيدة "لامية العرب" للشَّنْفَرَى (ت نحو 525م) وديون الشعراء الستة الجاهليين، وبعض أشعار المراثي الجاهلية مثل مراثي الشاعرة الخنساء (ت 24هـ/644م) لأخيها صخر، ومرثية الأعشى (ت 7هـ/629م) للمنتشر بن وهب الباهلي. ثم بعد أن يحفظ الأطفال شعر الشعراء الستة -وهو حوالي ألفيْ بيت!!- يبدؤون في حفظ قصائد بعض الشعراء الإسلاميين كشعر حسان بن ثابت في غير الغزوات، مثل قصيدته في مدح آل جَفْنَة الغسّانيِّين وقصيدته الميمية في ملِك الغساسنة جبلة بن الأيهم (ت 54هـ/676م). وفي مثل هذا العمر ربما تعلق بأذهان الأطفال أشعار محلية لبعض الموريتانيين كما حصل معي، سواء منها الشعر الجديد الذي ينشئه الشعراء المعاصرون لزمن الطفل أو شعر مَن سبقهم، فحين يرى الطفل الناس تكتب قصائد معينة يهتمّ هو بها ليرويها معهم.

ولذلك كنت أروي أشعار جدي لأمي العلامة محمد عالي بن عبد الودود (ت 1402هـ/1981م) كلها في فترة الصبا، وقد حصلت لي قصة معه -بعد هذه الفترة طبعا- حين ذهبنا في تعزية لأهل أحد العلماء من زملائه، فبدأ الشيخ -ونحن أثناء الرحلة- ينشئ قصيدة لرثاء زميله المتوفَّى، فكان في السيارة يُمْلِي عليّ بيتا ويقول لي: احفظ هذا، ثم ينشئ آخر.. وهكذا، فلما أتينا قرية المتوفَّى وانتهى سلامنا قال لي: يا محمد الحسن، أنشد القصيدة التي أمليتُ عليك! فكان في الأمر إحراجا شديدا لي، فأنشدت القصيدة من حفظي لها في السيارة وهي أكثر من عشرين بيتا.

ثلاثية ذهبية
* إذا أردنا أن نتكلم عن العلاقة بين الثلاثية المتلازمة في التعليم التراثي: الشيخ وطلاب "المحظرة" والمنهج العلمي المقرر؛ فكيف ترونها؟

  • طبعا هذه أمور لا بد منها، فهي ليست من المكملات بل هي شروط لا غنى عنها؛ فبالنسبة للشيخ لا يمكن للإنسان أن يتعلم بدونه، فلذلك فإن أبا حيان الأندلسي (ت 745هـ/1345م) يقول من جملة أبيات:
    إِذَا رُمْتَ العُلُومَ بِغَيْرِ شَـيْخٍ ** ضَلَلْتَ عَنِ الــصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ
    وَتَلْتَبِسُ الأمورُ عَلَيْكَ حَتَّى ** تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ "تُومَا" الحَكِيمِ

والشيخ شَرْطيّتُه لهذا واضحةٌ في النصوص الشرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بدأ نزول الوحي عليه أرسِل إليه جبريل، وموسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؛ فالشيخ إذن شرط لا بد منه، والشيخ لا بد أن يكون ناصحا مجرِّبا عالما، ولو كان يتقن بعض العلوم دون بعض فينبغي أن تَأخذ عنه ما يتقنه ثم تتجاوزه إلى غيره من الشيوخ.

ثم يأتي الكتاب وهو رفيق الدرب للمتعلم إذ هو شيخه الثاني، وهو عمدته في حفظه لأن ما نقصت فيه الذاكرة أو قصرت دونه سيجده في الكتاب، ولذلك كان العلماء يعدّون الكتب أشياخا. والكتب لا بد فيها من التنوع؛ فمنها كتب للدراسة وهي كتب المتون التي تدرّس عندنا في "المحاظر" أو يقررها المشايخ ليدرسها الناس ويحفظوها عن ظهر غيب، فـ"المحاظر" التي أدركناها كان يُدرَّس فيها ثمانية أربعون علما متخصصا يدرسها الطلاب على ترتيبها من الأسهل إلى الأصعب، ثم تتوسع العلوم فيما سوى ذلك وبعضها يؤخذ من طريق المطالعة فقط.

ثم تأتي الكتب التي هي مخصصة للمطالعة وهذه ليست للمقررات المحظرية بل هي للمطالعة فقط، والمطالعة لا يُستغى عنها بل لا بد أن يتعودها الإنسان حتى ولو كانت للجرائد والمجلات، فكنا -ونحن صغار- تأتينا مجلات وجرائد فنحرص على تبادلها إذا ختمها فلان يسلمها لفلان وهكذا، وكذلك كثير من الكتب التي هي للمطالعة أصلا فإنها ما وُضعت لتُشرح لأنها شروح بذاتها أو حواشٍ على شروح أو هي كتب فكرية، فهذه لا تحتاج إلى شرح الشيوخ، ومن أهم أركان المطالعة المحبة لها والنَّهَم فيها.

والغريب أن هذه المطالعة كانت تستحوذ على عقول الناس وتأخذ أوقاتهم فينسى معها الإنسان الطعام والشراب، بل إنه أحيانا ينسى الصلاة إذا انغمس في قراءة كتاب ودخل في موضوع يريد أن يكمله فلا يشعر بشيء من حوله، فقد كنا نحب الكتب حبًّا جمًّا. وأذكر أنني كنت أقرأ ذات يوم كتابا أول مرة أراه وهو ‘المُعجِب في تلخيص أخبار المَغرب‘ للمؤرّخ محيي الدين المراكشي (ت 647هـ/1249م)، ودخلتُ في تاريخ الدولة الموحدية فانغمست فيه -وأنا في البادية- فما شعرت إلا بالظلام يحول بيني وبينه، وأنا ما صليت المغرب بعدُ!

وكذلك كتب الأدب والشعر والقصص فهذه مما تحبب القراءة والكتب إلى الإنسان، وكان كثير من الأطفال ينامون على كتبهم يمسكونها على صدورهم وهم على فُرُشهم، وقد كنت -وأنا صغير- يأتيني رُعَافٌ شديد خلال المطالعة فلا أشعر به حتى يصل إلى الكتاب، ولذلك عندنا الآن عدد من الكتب على صفحاتها دم بسبب هذا الرعاف!

بعد الشيخ والكتاب تأتي قضية الزميل المنافس، وهذا أصل أيضا من أصول طلب العلم لا بد منه؛ فبعد أن يخرج الإنسان من مدرسته الأولى مدرسة الأمّ التي يحفظ فيها القرآن والكتب الصغيرة، التي تشرحها له هي أو من معها من النساء اللواتي تكلفهن بهذا الأمر؛ يذهب الطالب إلى حلقات تدريس البالغين، وأول ما يبحث عنه هو الزميل الذي سيشد أزره وينافسه، وهذه المنافسة مهمة جدا ليكتشف بها الإنسان نفسه ونقصه ويقوّم بها ذاكرته، فمنذ القدم كان للمنافسين -سواء كانوا أعداء أو أصدقاء- أثر في تكوين النفوس، ولذا قال الشاعر:
عِدايَ لهمْ فضلٌ عليّ ومِنَّةٌ ** فلا أبعدَ الرحـمنُ عني الأعـاديا!
همُ بحثوا عن زَلّتي فاتقيتُها ** وهمْ نافسوني فاكتسبتُ المعالـيا!

يتبع ان شاء الله...

ولمن فاتته الحلقة السابقة ,يرجى الضغط هنــــــــــــا

       

بحث