تدل نصوص القرآن والسنة على أن الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، قال تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وقال تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وغير ذلك من الأدلة الكثيرة التي أثبت علماء الشرع من خلالها قاعدة "ارتكاب أخف الضررين لدفع أشدّهما"، ومن ألفاظها (إذا اجتمع الضرران أسقط الأكبر للأصغر"، و"الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، و"يختار أخفّ الضررين"، و"يختار أهون الشرين")
فنكاح الأمة رغم مفسدة استرقاق الولد خير من فاحشة الزنا لقوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) وصلاة المريض جالسا خير من عدمها وقتل نفس واحدة قصاصا خير من الفتنة وقتل آلاف الأبرياء ثأرا.
ولا شك أن علماء الشرع في مختلف الأمصار والعصور حققّوا مناط هذه القاعدة وغيرها من قواعد الشرع في كثير من الوقائع المشخصة التي طرأت في زمانهم بيد أن فقه السياسة والأحكام المتعلقة بالسلطان والرعية ظلت غائبة عن أغلب كتب الفقه لأسباب سياسية معلومة يضيق عنها المقام.
وإذا أردت أن تتحقق من هذه المعلومة فاصطحب معك إجماع المسلمين على أنه لا يخلو فعلُ مكلّفٍ من حكم شرعي يبين مراد الله تعالى فيه وقمْ بمراجعة التراث الفقهي، وستجد – لا محالة - أن أمهات كتب الفقه التي تبدأ عادةً بالطهارة لم تفرد بابا لهذا الأمر رغم عدم خلو مسائلها منه، وقد قيض الله له من اعتنى به وإن لم يصل مرحلة غيره من الأبواب، وأمتنا الإسلامية ما زالت حاجتها لإحياء فقه السياسة ورسم الحدود بين ما ثبت منه وصار مطلقا وإن قلّ وندر وما كان منه محلّ اجتهاد واختلاف ظاهرةً كالشمس في رائعة النهار.
تصور مفسدة النظام الحاكم ومفسدة بيرام.
1) إن إدراك حجم الفساد المنتشر في وطننا الحبيب كانتشار النار في الهشيم لا يخفى على لبيب حاذق إذ لا توجد صحة ولا بنية تحتية ولا تعليم ولا أي شيء.
تحاصِرُنا الموت في وطننا الحبيب من كل جهة، فيموت المواطن جوعا دون أن يجد ما يقتات به، ويموت مرضا دون أن يجد علاجا، ويموت غدرا وغيلة في الشوارع دون أن يجد من يحميه، وإذا هاجر يبتغي لقمة سائغة وجد الموت في طريقه، ولولا ما تراكم من الفساد منذ عقود لما بلغ التوتر مبلغه.
2) إن قضية بيرام مركبة لا بد من تتبع أجزائها وسبر عللها حتى تتمايز مسائلها المتقاربة وأمورها المتشابهة.
ويمكن أن يقال فيها إجمالا إنها قضية حقّ أراد بها بيرام باطلا، فلا شك أن ظلما تاريخيا أحاق بفئة من المجتمع، وهو استعباد لا أساس له شرعا لكنّ مظاهره اختفت وأشكاله انمحت فلم يبق موجودا منها إلا شكل واحد لا يفرق بين أبيض وأسود وأحمر، ألا وهو الغبن والتهميش الذي يعمّ أرجاء المعمورة.
أما استغلال بيرام ومن سار على دربه لقضية تاريخية لم تعد موجودة، وأصدق ما يقال فيها ما جاء في القرآن الكريم (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) من أجل زرع الحقد بين مجتمع يدين بدين واحد ويتحدث أغلبه بلسان واحد فتلك مفسدة كبرى وفتنة عظمى.
الترجيح بين المفسدتين ووجوب دفع أشدّهما شرعا.
يمكن حصر أسباب ترجيح مفسدة بيرام على مفسدة النظام الحاكم في النقاط التالية بإيجاز:
- إن النظام يفسد في الأرض، والفساد في الأرض يشبه القتل في التحريم لقوله تعالى ( أنه مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)
أما بيرام فإنه يدعو للفتنة، فهو يريد أن يفتن فئة من المجتمع في دينها باعتباره مصدر الظلم والجور، ويريد أن يزرع الفتنة أيضا بين أبناء المسلمين فيحرق البلاد ويفرق العباد لا قدر الله، ومفسدة الفتنة أشد من مفسدة القتل الذي ذكرنا آنفا أنه يوازي الفساد، قال تعالى ( والفتنة أشد من القتل).
- إن النظام الحاكم نظام مسلم لا يتعرض للعلماء وأهل الفضل ولا يمسهم بسوء، ولا يقف في وجه الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته، وليس خائنا يطيع الغرب أو الشرق، وإنما منتهى خبره أن يفسد أمور الدنيا فقط، أما بيرام فقد اختلط عليه الحابل بالنابل، وحمّل الشرع أخطاء بني آدم، وتآمر مع الغرب على ديننا وحضارتنا، ومفسدة الآخرة أشد من مفسدة الدنيا قطعا.
فيجب – بناء على ما تقدّم – شرعا على كل مسلم أن يقف مع النظام الحاكم في وجه دعاة الفتنة والخراب انطلاقا من قاعدة "ارتكاب أخف الضررين لدفع أشدّها"
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
محمد الحسن محمد الأمين