ذكرى بلال
حدّث محمد سالم ولد محمدو قال:
.."كوكة بنت ...." لا تذكر من تاريخ ميلادها سوى أنها أكبر بأكثر من عشرين سنة من ابنها بلال الذي ولد "عام النيسان"، رحلت بها إحدى بنات سيدها الأول إلى أصهارها الجدد في بادية الخط ولم تَمضِ أشهرٌ كثيرةٌ حتى زفت "كوكه" إلى أحد العبيد من ذات المخيم، فأنجبا طفلا وسمياه بلالا. ونشأ بلال كما ينشأ أبناء العبيد والإماء في حيه، يرفرف بكل أجنحة البراءة وكل صور البؤس والمأساة، ولن يكون أسهلها الرق الذي سيكتب قصة فراق لا نهاية له بين بلال وأبويه، وفي ظل تلك الظروف انتقلت كوكه إلى سيد جلف في نفس الحي، ولم يكن في الأمر كبير غرابة لا على الأمَة ولا السيد، ففي عالم الصحراء تتسع التجارة لكل شيء..للإنسان والقيم والأرض.
تقول كوكه:
قطعنا عرض البحر واجتزنا ضفة لگوارب الجنوبية باتجاه السنغال ذات صيف حار، كنت مع أسرة، ومكثنا عدة أشهر مع أسرة من أقارب "عربيّ" قبل أن نعود إلى الخط من جديد، وهنالك كنت على موعد مع خبر غير سار ولا مبشر.
لم يكن بلال من بين أطفال العبيد الذين هرعوا لاستقبالي والرفقة العائدة، وظل الأسى يبتلع سؤالي المتردد أين بلال قبل أن أجد الإجابة الصاعقة عند "عربيَّ" الذي قال إن "توجاط" قتلت بلال.
وتضيف كوكة: بكيت كأحر ما يكون البكاء وأشد ما يكون الألم والشوق إلى طفلي الوحيد ومادت بي الأرض حتى لو انفتحت لي ما ترددت في الولوج إلى بطنها الذي يضم بين أصداء القبور جثمان بلال، ثم قطعت يد التصبر حبل الألم الطويل، وجفت المدامع، تذكرت أن الموت طريق كل حي وأنا جميعا ميتون، ولن أكون أول فتاة فقدت وحيدها ولا أول طفل غادر والديه، وتذكرت ما أخبرت من قبل أن أطفال المسلمين يعيشون في ربض من الجنة مع سيدنا ابراهيم عليه السلام وهم ينتظرون القيامة ليأخذوا بأيدي آبائهم ويدخلوهم الجنة، فهون هذا الأمل ذلك الألم وإن لم يمحه بتاتا.
ورغم ذلك لم يبرح طيفه الوديع ناظري فلقد كنت أراه في قسمات كل لِداته بيضا وسودا، أراه يخرج من بين الأشجار وينساب مع زقزقة العصافير وأنسام السحر، وتذكرني كل ضحكة بريئة برنين ضحكاته الساحرة، وتنكأ كل دمعة يذرفها صبي جرحه الغائر في فؤادي.
أحببت من أجله كل الأطفال، كل الصغار من الشجر والإنسان والطير والدواب، وكنت أشبه كل طفل جميل ببلال.
وتواصل الحزن النبيل يزرع لي عمرا جديدا تتشابك فيه الذكرى والشوق والصبر والألم، لولا أن حرطانية سليطة اللسان قالت لي ذات مرة غاضبة - وأنا أستعيد على صويحباتي مشهدا باسما من ذكريات بلال وأدعو له بالرحمة - قالت:
على من تترحمين، إن بلال لم يمت ولكن "عربيك" باعه ضحى بأوقيات بيض لرفقة من أهل الساحل فأردفوه على حمرهم، وساروا به لتبتلعه التلال ويتوارى خلف المغيب.
ولا يجد الحزين أشد عليه من نكء الجرح، ولا المريض من السقم بعد الإبلال، وتفيق كوكة من صرعة الخبر الصاعق، فإذا الألم لا يدع فسحة للصبر وإذا رقعة الشكوى تملأ كل رحاب الفؤاد الجريح، وإذا العمر خريطة للأحزان ودفتر مسطور من دفاتر الثكل العنيد.
وتصارح كوكه "عربيها" متسائلة بجرأة المكلوم وفصاحة الحزن العاري ..
لم كذبت علي؟
فلا يرِقُّ لأَلَمها ولا يُبصر دمعاتها المتلاحقة كحبات سبحة من العقيق، وإنما يغضب لجرأتها عليه، فيلبسها أردية حمراء من آثار السياط، ويشنف مسامعها بحلي من السباب الخبيث.
وتمر أيام وليال .. وكوكة لاتطيق النظر إلى وجه سيدها بائع الأطفال، وتجد الفرصة سانحة عندما يزور سيدها الأول ابنته التي رحلت بكوكه قبل سنوات، فتتعلق به الأمة الثكلى، ترجو أن تعود إلى ملكه القديم، وتناشده فيرق لها قلب السيد الأول فيستعيدها على مضض، لتعيش معه في حيه غير بعيد من "مخيم المأساة" الذي كانت فيه، سنوات، يغادر فيها السيد الأول عالم البشر، وتعيش كوكه مع بنات سيدها أختا لهم من نوع الإماء، يرعين شأنها ولا يكلفنها من العمل إلا ما تطيق.
وتمضي الأيام وجرح بلال عصي على الاندمال ..غير أن سلطان الأيام أسرع إلى مسح الدمع، وإطفاء جمرة الحزن، ويمضي الزمن سريعا يراكم عشرات السنين، ويأتي رسول القبر فيخطف أبا بلال، وتبقى "كوكة" صامدة كأنما نحتت من حجارة وحديد، وإن مُلئت حزنا لا ينقضي ودمعا لا يغيض فكأنها والدمع جريان الماء الزلال من عيون الصخر الأصم.
وتتوالى السنين، وتضعف كوكه عن الحركة، حتى ما تستطيع الصلاة إلا جالسة وتخفت شعلة البصر الحديد، حتى ما تميز قسمات الأهل المساكنين وتوقر الأيام السمع حتى يحتاج إلى ترجمان.
ثم تلح عليها حمى عارضة، فيراها الطبيب ولا يأمر لها بدواء كبير، ثم يسرّ إلى كبير أبناء أختيها أن شمسها تستعد للغروب.
وهنا تعود ذكرى بلال تلح كأجنحة الحلم تلوح كلمع البارق المتوثب، وأسراب الذكريات تقتات من بقية الروح التي تتردد في جسم صهرته الأيام والنكبات.
ويجتمع الأهل، يحبسون مجاري الدمع، ويغالبون غصص الألم العنيد، وتتحسس كوكه "أيدي العواد" وتغمغم بحروف مثقلة ...بلال ..هل جاء بلال ..
ثم تدلف إلى سكرة طويلة حتى يردد السرعان ورقاق القلوب "إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد غادرت عالمنا" ثم تفيق فتردد بحروفها الجريحة "أريد بلال" ... ولم تزل كذلك حتى خرجت الروح من الجسد وتوقف عداد الأيام عن الدوران عند تسعين أو تزيد من السنين والأعوام.
وحمل الناس الجسد الضئيل، إلى مثواه، بعد أن غسلوه من أدران الدنيا ولفوه في غلالة بيضاء، ثم ردوا عليها طرفا من رداء منسوج من الرمل، ووقف كهل من أبناء إخوتها يردد بصبر جريح "اذكري ما خرجت به من هذه الدنيا من أنك تشهدين أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .."
وعاد الناس إلى أهليهم، فتبادلوا التعازي والكلمات الكبيرة، ثم عادت مياه الحياة إلى مجاريها، أما أنا فلا يزال "سؤال أين بلال؟ يرن في أذني صداه اللاهب، لأردد أين بلال؟.
وأين بلال الآن، إن يكن حيا فكيف لشيخ يخطو في الثمانين من عمره أن يجيب على هذا السؤال الحزين!
وإن تكن غالته الأيام وغادرت به عالم الغبن والظلم الأرضي، فليس أول طفل بخلت عليه عدالة السادة والكبراء بحضن أمه وأبيه.
لكن سؤالي الكبير...كم من بلال ..وأم بلال ...يعيشون بين ظهرانينا، وهم يحملون ذات الألم النبيل الذي حملته "كوكه" أكثر من سبعين سنة.
برأيي المتواضع فليس بلال إلا صورة واحدة من ’’ مجلد الصور المأساوية’’ التي تملأ جهازنا الاجتماعي الرديء.
كامل الأسى
بقلم سيدي محمد Xy