#ضحايا_الحرب
لم يجد في منزله شيئًا صالحًا للبيع لكي يبيعه ويجني ثمنه نقدًا، لأنه في العام الماضي وعد أبناءه الثلاثة بأنه سوف يشتري لهم ملابس العيد وأنه لن يخلف وعده هذه المرة كما فعل قبل ذلك ثلاثة مرات، ولكنه يعلم تمامًا أنه لا يملك ثمن لبسة واحدة ناهيك عن ثلاث، زاد همه واختلط الحزن مع صباحة وجهه، وأثناء تفكيره المفرط في كيفية توفير المال اللازم؛ جاءت ابنته الصغيرة تسأله كم تبقى للعيد يا أبي؟
احتضنها عليه وقال لها: اليوم الرابع والعشرون من رمضان تبقى للعيد خمسة أيام، تريدين ملابس العيد أليس كذلك؟ أنا لم أنسى يا صغيرتي، هذه المرة سأجلب لكم كل ما تتمنونه، وهو في نفسه يعلم أنه لا يملك شيء.
في اليوم الثاني خرج إلى السوق منذ الصباح الباكر، مشى على أقدامه مسافته المعتادة التي يمشيها كل يوم لبعد منزله عن السوق، منزلٌ صغير في حيٍّ عشوائي، والذي يتكون من غرفة صغيرة من الجالوص، تقف على ثلاث جهات فقط، الجهةُ الرابعة سقطت بفعل الأمطار، فكانت قطع الأقمشة المهترئة تغطي هذه الجهة الرابعة، ومطبخ من الحصير يغطي جوانبه، وسور من الشوّك يحاوط هذا المنزل الصغير.
وصل إلى السوق تائهًا لا يدري ما يفعل، سمع صوتًا يناديه: يا حاج أحمد.... التفت عليه فوجده صديق له قديم كان قد تغرّب إلى دول الخليج للعمل، ومن هيئته الفخمة تعرف بأن المال جرى على يديه، صافحه بكل حب، متسائلًا عن أخباره وأوضاعه، فأجاب بكل أريحية أن كل شيء بخير، عرف صديقه من نبرة صوته وهيئته الرثة أن لا شيء بخير، أدخل يده في جيبه وأخرج حزمة من النقود فئة الألف جنيه ووضعها في يد حاج أحمد، قائلًا: هذه عيدية الأولاد ووالله لن تردها، ثم ذهب مسرعًا قائلًا له: سنلتقي فيما بعد.
اقشعر بدنه من هول المفاجأة وهذا التدبير الإلهي، امتلأت عيناه بالدموع، ثم ذهب مسرعًا ليشتري كل ما وعد به أطفاله من ملبس ومأكل ومشرب، فاختلطت هذه المرة سعادته بصباحة وجهه، يكاد يطير من شدة الفرح لكونه أوفى بوعده لأبناءه هذه المرة، وأثناء رجوعه إلى المنزل اشتد القتال في أطراف المدينة، ثم رأى دخانًا متصاعدًا تجاه الحي الذي يقطن فيه، تسارعت ضربات قلبه وتعرق جبينه، ثم زاد في خطواته مسرعًا تجاه المنزل، ثم هرول حين رأى الناس تجري يمينًا ويسارًا كأنه يوم الحشر، حين وصل إلى ذلك المنزل الصغير؛ اظلمت الدنيا في وجهه من هول الصدمة، وبات لا يسمع حتى دوي إطلاق النار، فكل حواسه كانت تعمل تجاه التفكير في سلامة أبناءه، يا للهول تلك الغرفة الصغيرة من الجالوص المكونة من ثلاثة جهات؛ وجدها تحتضن الأرض، وذلك السور الشوكي احترق كله، بدأت أقدامه ترتجف، وتحوَّل وجهه الصبوح إلى وجهٍ دامس، جميع أطفاله ضمتهم هذه الغرفة الصغيرة، كانوا تحت انقاضها، فكأنها غارت عليهم، لم ترد أن تذهب وحدها، فاحتضنتهم بكل حب، وبدل أن يلبسوا جديد العيد؛ التحفوا الأرض معطفًا".
Adnan Khalil