ما أعظم الوفاء , وما أجمل الحب حين يكون طاهرا وعفيفا وخالصا من القلب , كما كان حب زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزوجها أبي العاص حتى وهو كافر.
تابع القصة الشيقة
ولدت زينب سنة ثلاثين من مولد النبي عليه الصلاة والسلام
وعندما بلغت سن الزواج طلبتها خالتها " هالة بنت خويلد "
أخت ام المؤمنين خديجة لابنها " أبي العاص بن الربيع
" وكانت الموافقة وكان الرضا من الجميع.
وزُفت زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام
إلى " أبي العاص بن الربيع
" .... ومضت السيده خديجة إلى العروسين المتحابين
تُبارك لهما ثم خلعت قلادتها الخاصة لتجعلها في عنق زينب كهدية العرس
..
كان ذلك قبل أن ينزل الوحي على أبيها محمد عليه الصلاة والسلام ..... ولما أشرقت الأرض بنور ربها , آمنت زينب في مَن آمن ...... ولكن زوجها أبا العاص لم يكن من السهل عليه كالكثيرين من شباب قريش أن يخلع دينه ! وأحس كلا من الزوجين أن قوة أقوى من حبهما تحاول أن تفرق بينهما
أما هو فقد أعلن التمرد والعصيان.
: " لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني "
أما هي فقالت : " قليلاً يا صاحبي , لستُ حلأ لك , وأنت على ذلك الدين , فأسلمني إلى أبي أو أسلم معي ....... لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت به "
.
وتمر الأيام
على هذا الوضع بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وتسير قريش إلى بدر لحرب الرسول عليه الصلاة والسلام ويسير فيهم أبو العاص بن الربيع لا ليعلن إسلامه ولكن ليحارب الرسول عليه الصلاة والسلام في جيش المشركين.
ويتأزم الموقف حين يقع أبو العاص أسيراً في يد المسلمين عند الرسول عليه الصلاة والسلام بالمدينة وتبعث قريش في فداء أسراها وتبعث زينب مالاً وقلادة لتفتدي أسيرها أبا العاص بن الربيع . ويرى الرسول عليه الصلاة والسلام القلادة فيرقّ لها رقة شديدة ويقول لأصحابه : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها , وتردوا عليها الذي لها فافعلوا " فقالوا : " نعم يا رسول الله " فأطلقوه , وردوا عليها قلادتها ومالها
وهنا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام وعداً من أبي العاص بأن يُخلي سبيل زينب ويُعيدها إليه بالمدينة . وعاد أبو العاص إلى مكة , وفي نفسه صورة أكثر إشراقاً لهذه الزوجة الكريمة الوفية , ولكنه عاد لا ليشكر لها صنيعها بل ليقول لها : " عودي إلى أبيكِ يا زينب " وفاءً بما أخذ عليه رسول الله من عهد بأن يدعها تسير إليه , وخنقته العبره فما استطاع أن يتمالك نفسه , ولا أن يشيعها إلى أطراف البادية حيث كان في انتظارها خارج مكة زيد بن حارثة ورجل من الأنصار ! ومضى يقول لأخيه كنانة بن الربيع : " يا أخي إنك لتعلم موضعها من نفسي , فما أحبّ أن لي امرأة من قريش غيرها , وإنك لتعلم ألا طاقة لي بأن أفارقها , فاصحبها عني إلى طرف البادية حيث ينتظر رسولا محمد , وأرفق بها في السفر , وارعها رعاية الحرمات , ولو نثرت عليها كنانتك ( أي لا تدخر جهداً حتى آخر سهم ) لا يرنو منها رجل حتى تبلغ " أي حتى تصل المدينة
.
فلما فرغت من جهازها قدّم لها حموها كنانة بن الربيع بعيراً فركبته وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهاراً وهي في هودج لها يقود بعيرها . ولكن هل تتركها قريش بعد هزيمتها في بدر تخرج على مرأى ومسمع من الناس ؟! لا ثم لا !! فلقد تحدث رجال من قريش بذلك فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طُوى , فكان أول من سبق إليها "هبّار ابن الأسود بن المطلب " فروعّها بالرمح وهي في هودجها وكانت حاملاً فلما رجعت طرحت ما في بطنها.
وهنا يتصدى حموها .. أخو زوجها " كنانة بن الربيع " لهؤلاء المعتدين قائلأ " والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهماً " فانفض الناس عنه وأتاه أبو سفيان في جماعة من قريش فقال : " أيها الرجل , كف عنا نبلك حتى نكلمك " فكف فأقبل أبو سفيان حتى اقترب منه وقال " إنك لم تصب ... خرجت بالمرأة على رؤوس الرجال علانية من بين أظهرنا , إن ذلك عن ذل أصابنا في بدر , لعمري مالنا حاجة في حبسها عن أبيها , وما لنا في ذلك من ثرة ولكن أرجع المرأة "
ولما هدأ الصوت خرج بها ليلأ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله وافترق الزوجان , فلا سبيل إلى لقاء , فهي قد أصبحت في دار أبيها بالمدينة وأقام أبو العاص بمكة شريداً مبلبل الفكر جريح الفؤاد
.
ومضت سنوات وسنوات ...... ويخرج أبو العاص في تجارة له إلى الشام , وفي طريق العودة تلقاه سرّية لرسول الله علية الصلاة والسلام فتصيب ما معه من أموال ولكنه يفلت من أيديهم ...... لقد فقد ماله ومال الناس ولا سبيل إلا أن يرد الأمانات إلى أهلها , فماذا يفعل ؟؟
لقد تذكر زينب التي بادلته الحب والوفاء , فدخل المدينة ليلاً وطلب منها أن تجيره وتعينه على رد ماله فأجارته , وأصبح الناس يسعون إلى المسجد , وكبر رسول الله عليه الصلاة والسلام وكبّر المسلمون معه , وإذا صوت يهتف من وراء جدار : " أيها الناس , إني قد أجرت العاص بن الربيع فهو في حمايتي وأمني " وكانت زينب هي التي تهتف !!
وفرغ النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته فأقبل على الناس فقال : " أيها الناس هل سمعتم ما سمعت ؟؟ إنه يجير على المسلمين أدناهم " ثم دخل على ابنته فحدثها وحدثته وأوصاها قائلأ : " أي بُنية أكرمي مثواه ...... ولا يخلص إليكِ فإنكِ لا تحلين له مادام مشركاً " وأكبر النبي عليه الصلاة والسلام أن يرى في ابنته هذا الوفاء لزوجها الذي فارقته لأمر لله وقطعت ما بينه وبينها من شهوات النفس لأمر الله ... ونال من نفس النبي الكريم ما سمع وما علم فأضمر في نفسه رجاء إلى الله , ثم بعث صلى الله علية وسلم إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال : " إن هذا الرجل منا حيث علمتم , وقد أصبتم له مالأ , فإن تحسنوا إليه وتردوا عليه ماله , فإنا نحب ذلك ! وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم , فأنتم أحق به " ......... قالوا : " بل نرده عليه " . وقال نفر منهم : " يا أبا العاص , هل لك أن تُسلم , وتأخذ هذه الأموال فإنها أموال المشركين ........ فقال : " بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي " فردوا إليه ماله كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإكباراً لزينب
وعاد أبو العاص إلى مكة بماله ومال الناس .... ونفسه تفيض بمشاعر شتى وبين عينيه صورة لا تفارقه , فلما أدى لكل ذي مال ماله وقف ثم قال : " يا معشر قريش , هل بقى لأحد منكم عندي مال ؟ قالوا : لا.. جزاك الله خيراً قد وجدناك وفياً كريماً . قال : " فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .... والله ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوّفي أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم , فلما أداها الله إليكم وفرغت منها , أسلمت " ثم خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً وتلاقى الزوجان المتحابان مرة ثانيه بعد فراق طويل ,ولكن الزوجة الوفية كانت قد أدت واجبها وفرغت من دنياها حين هدى الله بها الرجل الذي أحبته ووفت له بمقدار ما أحبها ووفى لها .......... فما مضى زمان بعد هذا اللقاء حتى كانت قد استوفت أنفاسها على الأرض
وتوفيت زينب سنة ثمان للهجرة فحزن عليها رسول الله صلى الله علية وسلم حزناً عظيماً , وفارقت الدنيا بعد أن خلفت أطيب الذكرى وضربت أبلغ المثل في وفاء الزوجة المخلصة المحبة.