شهادة عن قرب وعن معرفة في حق سيدي ولد الشيخ عبد الله(ح)

جمعة, 25/12/2020 - 13:30

ولم أطلع مثل غيري من أعضاء الوفد المرافق على فحوى ما جرى بين الرجلين في المقابلتين الطويلتين إلا بعد عودتنا إلى انواكشوط، حين أراني الرئيس  سيدي نص التنازل المقترح عليه من القذافي، وأخبرني أن القائد وضعه أمام خيارين أولهما توقيع وثيقة التنازل مقابل التكريم في موريتانيا وفي الجماهيرية العظمى مع الإشارة إلى عطاءات مغرية لا أعرف ماهيتها. والخيار الثاني يتضمن تلميحا يهدف إلى إخافته مما يمكن أن يفعل به الضباط في موريتانيا إذا لم يستجب لهذا العرض!

غير أن الرئيس سيدي لم يتزحزح عن موقفه الرافض للتوقيع طيلة ليلتين مرهقتين له ولوفده المرافق على أكثر من صعيد. 

لست أدري حقيقة ما الذي توقعه البعض من تلك الزيارة، لكننا وبحمد الله عدنا من الغنيمة بالإياب سالمين.

وكان القذافي قد أجرى مكالمة هاتفية قبل ذلك مع الرئيس سيدي إبان زيارته الجدلية لانواكشوط، التي  زكى فيها (6 -6) موعدا للانتخابات الرئاسية. وخلال تلك المكالمة طلب القذافي من الرئيس سيدي أن يستقيل من رئاسة الجمهورية، مقترحا عليه أن يزوره في مقر إقامته بقرية لمدن تكريما له، وواعدا إياه بأمور أخرى قد تكون مغرية لبعض الناس، ولكنها لا تعني الكثير بالنسبة لسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.

وبالغ القذافي في الإلحاح موجها سؤاله للرئيس سيدي، "لم لا تقبلون طلبي لكم بالتنازل عن السلطة، فأنتم أفضل من الرئاسة"؟ فرد عليه الرئيس سيدي بالسؤال، و"لم لا تقبلون أنتم دعم المشروع الديمقراطي الذي أحمل لبلدي"؟

لقد اكتشفت في أكثر من مناسبة قدرة الرئيس سيدي على الإقناع وصياغته السلسة لمواقفه وتماسك حججه، لكن ما فاجأني بحق هو صبره وطول نفسه في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي تتالت عليه حتى من بعض الشركاء، بيد أنه ظل متشبثا بمواقفه الرافضة للمساومات والحلول التي لا تستند على الشرعية الدستورية، قائلا في كل مرة إنه يتمسك ب"قوة القانون في مواجهة قانون القوة"

وقد علمت أثناء مفاوضات داكار أن وفدا من قادة الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية زاره في "لمدن" ولقي صعوبة في إقناعه ببعض المقتضيات المتعلقة بمفاوضات داكار الجارية حينها.

لم تكن تلك الممانعة بسبب تعلق الرجل بالسلطة ولا بسبب نقص في ثقته بشركائه في الجبهة ولا تسفيها لهم ولا انتقاصا من تضحياتهم المشهودة، لكنها كانت بسبب وعيه الكامل بأهمية سلاح الشرعية وضرورة التمسك به حتى يتوصل جميع الفرقاء ـ خاصة ـ  داعمو الشرعية إلى تسوية مرضية، ترتكز على حل المجلس الأعلى للدولة وإلغاء أجندته الانتخابية وتشكيل حكومة إئتلافية، تتولى تنظيم انتخابات رئاسية متفق على آلياتها التنظيمية وجدولتها الزمنية، على أن تضم الأطراف الثلاثة؛ الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية وتكتل القوى الديمقراطية وداعمي السلطة العسكرية القائمة.

ولإضفاء طابع الشرعية على هذه الإجراءات، كان لزاما أن يعلن عنها في حفل مهيب يوقع أثناءه الرئيس الشرعي، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، المرسوم المشكل للحكومة الجديدة ويلقي خطابا موجها إلى الشعب، يتم بثه فورا عبر الإذاعة والتلفزيون الوطنيين ويختمه بإعلان استقالته من رئاسة الجمهورية. وأظنكم تتذكرون توقفه - أمام الملإ - عن متابعة إلقاء الخطاب، عند ما علم بانقطاع البث التلفزيوني، كيدا أو خطأ، ليستأنفه لاحقا بعد التأكد من عودة أجهزة البث للتشغيل.

والحقيقة أن معظم الموريتانيين وأنا من بينهم، لم يعرفوا الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله إلا من خلال تلك التجربة المريرة!

وفيما يخصني، ودون إخلال بواجب التحفظ، وبعيدا عن ما قد يظنه البعض ترويجا لمشروع في غير محله؛ فإنني أستحضر أمثلة تعبر عن فلسفة الرجل في ممارسة السلطة، والمقاربات التي اتبعها في التعامل مع بعض الأحداث والملفات.

فقد علمت منه أنه فكر بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في تشكيل حكومة سياسية موسعة، لكنه لم يستطع تجسيد هذا الخيار بسبب رفض تيار واسع من المستقلين لتوسيع قاعدة المشاركة في السلطة من جهة، ولصعوبة الاختيار بين المستقلين من جهة ثانية، حيث يستحيل تمثيل أي منهم بغيره!

وقد قال الرئيس سيدي حينها إن الناس يرون المسؤولية من زاويتين مختلفتين؛ فبعضهم يراها حملا ثقيلا يحتاج المساعدة والتعاون، بينما يرى فيها البعض غنيمة توزع، كلما كثر المشاركون فيها نقص نصيب أي منهم!

وعند تشكيل حكومة يحيى ولد أحمد الوقف الأولى، أوصى الرئيس سيدي بدعوة قوى المعارضة الرئيسة للمشاركة في حكومة موسعة، لكن الاستجابة كانت جزئية.

ونرى في المثالين التاليين ميل الرئيس سيدي إلى الإنصاف وانحيازه للعدالة؛ إذ كان عليه أن يختار خلال الأشهر الأولى من مأموريته رئيسا لجامعة انواكشوط بين ثلاثة جامعيين، أولهم قيادي نشط في حزب التكتل المعارض لنظامه، وثانيهم مستقل صوت لصالحه في الانتخابات الرئاسية، وثالثهم كان مسؤولا في حملته الانتخابية.

ورغم امتلاكه صلاحية اختيار أي من الثلاثة، فقد اختار الأول في الترتيب لأن ذلك أقرب في نظره إلى العدالة.

ويتعلق المثال الثاني بتعيين قيادي في حزب التكتل المعارض سفيرا، مما تسبب في امتعاض بعض الشركاء، فرد الرئيس سيدي عليهم بأن الأمر يتعلق بديبلماسي مهني، ينتمي إلى شريحة اجتماعية مهمشة. وهما معياران كافيان في نظره لإلغاء الاعتبارات الأخرى.

وأستحضر مفهوم الدولة عند  الرئيس سيدي في رده على المطالبين بعقد قمة طارئة لمنظمة إقليمية تتمتع موريتانيا بعضويتها، وذلك بهدف تنحية إطار موريتاني يرأسها في تلك الفترة، وبحجة أن هذا الإطار لا يقوم بدوره في الدفاع عن مصالح البلاد. فكان جوابه مؤلفا من عنصرين:

الأول، استغرابه لمطالبة دولة تحترم نفسها باستبدال المرتبة الأولى في هرم منظمة دولية أو إقليمية بالمرتبة الثانية!

والثاني، قوله إن مهمة الدفاع عن مصالح البلد على مستوى المنظمة تقع على عاتق الموظفين الموريتانيين الممثلين للدولة، أما رئيس المنظمة فواجبه يتمثل في حماية المنظمة والدفاع عن المصالح المشتركة لجميع أعضائها دون انحياز.

وفي مجال الحكامة، اعتمدت حكومة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله مسطرة إجرائية تستهدف تمهين الوظائف، تم بموجبها الفصل بين المسؤوليات السياسية والمناصب الفنية، و منحت وفقا لها صلاحيات التعيين للوزراء في العديد من المناصب الإدارية (المديرين المساعدين المركزيين ورؤساء المصالح و الأقسام الإدارية)، فضلا عن اعتماد معايير مهنية بحتة لتقلد المسؤوليات الفنية وتحديد ضوابط التدرج التلقائي في مختلف المناصب. ومن المؤسف حقا أن هذه الإصلاحات تم إلغاؤها دون مسوغ.
يتبع أن شاء الله....

المقال الأصلي بعنوان :
(في معية الرئيس القدوة، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله)
بقلم / كابر ولد حمودى
يرجى الضغط هنا للرجوع لبداية المقال

  

        

بحث