تلة بابللي والنقيب ابريكة
قبل تشييد مفوضية تفرغ زينة(كاترييم) كان بيتنا يطل على ممثلية الأمم المتحدة ومركز اللغات الوطنية،وكانت الساحة الكبيرة عبارة عن ملعب لكرة القدم..وفي الجانب المطل على المباني الحكومية حيث نقيم تنتصب تلة الفحم الشاهقة، انها امبراطورية بابللي،الشاحنات تفرغ حمولتها من الفحم عنده بصفة دورية وأقاربه بالعشرات يقيمون في أعرشته حيث الذبائح معلقة والشاي لايتوقف،كنا جميعا نشتري الفحم من الرجل القوي صاحب العضلات الذي يتولى أيضا القبض على اللصوص والسكارى القادمين من الحانة الفرنسية لازعاج ساكنة الحي بالبذاءات والاعتداء أحايين كثيرة..بابللي يبيع للجميع ويقرض الجميع ويحبه الجميع مع ملمح خوف يبدو على وجوه الكبار حين يخاطبهم بشأن السداد.. ذات يوم جاء قادة هياكل تهذيب الجماهير وحشروا سكان الحي في الساحة لاستقبال النقيب ابريكة ول امبارك..هلع وخوف وتشوف للقادم العظيم، قفز الرجل من السيارة المكشوفة وغنى له الأطفال بمايناسب حكم اللجنة العسكرية من تمجيد ومحفوظات..جال ابريكة في المسؤولين بخطواته السريعة وصافح بعضهم واستمع للأناشيد ثم صفق للأطفال، وبعد دقائق الاستعراض انحنى الرجال فجأة وكأنهم يتبولون على الرمال الممتدة حتى السفارة الفرنسية، ثم اتضح بعد قليل انهم كانوا يغرسون الأشجار ،وبعد ساعة من الزحف الجماهيري وصلوا تلة بابللي..الذي كان يراقب المشهد من أعلى كومة الفحم كأنه ينتظر وصولهم لحدوده..نزل بسرعة من أعلى التلة وكأنه يتزحلق ثم سقط بين قدمي النقيب ومرافقيه..رفع رأسه: أيها النقيب،انه مصدر رزقي ولايمكن قطعه بغرس أشجار ستقطع لاحقا..فرد النقيب بلهجة حادة: انتم من يقطع الأشجار.
جلبة واعوال وصيحات استهجان على استحياء،ثم ركب ابريكة سيارته بحركة رائعة ولم يقطع رزق بابللي ذلك اليوم.
بقيت تلة بابللي لسنوات كأعلى ماينظر اليه في الحي، ثم مع الزمن نمت الغابة وتحول الناس وئيدا وئيدا الى الغاز المنزلي، وبدأت عضلات الرجل تضمر وكومته تتناقص وهو يهبط بتناقصها حتى لامست قدماه الأرض و صار أحيانا يبيع الفحم الرديئ..كنت أمر عليه فأشبهه في مكانه المقفر ذاك بفلاح يسير في حقل أرضه جرداء وسرب الغربان يحوم فوقه بحثا عن الماء اذ السنابل لم يعد لها من أثر تماما كالذبائح وجيف الدواب..كان المشهد محزنا فهزل بابللي بسرعة ثم استسلم للوهن وصار يتجول بين البيوت التي تطعمه من طعام الغاز اللعين،لم يكن يحب ذلك ولم يكن يسعد لرؤيتنا ونحن نرتفع وعضلات بعضنا تكبر في حين انه يذبل ويذوي وهو القوي الذي كان يحمينا..اننا أبناء الغاز الخبيث..هكذا أصبح ينظر الينا ببصره الذي تفحم هو الآخر.
خلال أشهره الأخيرة في الحي حاول لمرات اقناع الجميع بأن شاحنة كبيرة ستأتيه كل أسبوع من الداخل وبأن التلة سترتفع من جديد وبأن كرات الفحم ستدخل البيوت وبأن الناس سيطبخون على نارها من جديد..لم تفلح دعايته واعتبروا انه يثرثر كالمتقاعدين،هنا حمل موازينه التي شلتها الشرانق واختفى ذات ضحوة دون ان يترك أثرا..
بقعة بابللي الآن تقع بين مكتبة الحكمة ومفوضية تفرغ زينة..لقد اندرست كما صاحبها الذي ذاب كفص ملح في طبيعة سيدها الغاز الخبيث، ذلك الوافد الذي قطع أرزاق أشخاص في الريف كانوا يعتمدون بالكامل على سفيرهم في انواكشوط...ترى أين بابللي؟ وهل أنصفه الدهر أم أنه تحت الأرض الآن وربما يشرق من بحر غاز يبدو انه تحتنا ولن نشم له رائحة،بالطبع.
ماذا لو أخبرني أحدهم بأنه يجلس الآن على تلة فحم شاهقة في حي آخر وبأن الشاحنات ترابط أمامه وبأن يديه ملوثتان بلون الفحم تماما كالفكة الورقية التي كان يمدنا بها..سيكون الخبر مفرحا لي بلاشك.
ملاحظة: بعد كتابة النص ذات مرة أخبرني ابن الرجل انه يقيم في الحي والحمدلله وانه يعيش حياة كريمة...سررت كثيرا
تدوينة بقلم الكاتب محمد الأمين محمودي