تذكير... ـ بينما أنا وحيد في غرفتي في القاطع الثَّاني من السِّجن المركزي أخوض بالفكر أمواجَ مِذياعي الصَّغير لعلِّي أصطاد خبرا يُعلِّل النَّفس في ليلة هادِئة يَنُمُّ إليَّ شُعاع داخل مِن كُوّة الباب أنَّها مُقمرة, إذ طَرَق مسمعي خبرٌ عن السُّجناء في البلاد وحُقوقهم..
كنتُ مُستلقيا فارتفقتُ (اتَّكأت على مِرفقي) فحديث النّاس عنَّا يُشعرنا بأنّنا في بَوصَلتهم وعلى خريطتهم, ناهيكم عن جمع أخبارنا مع أخبارهم.. فذاك لنا تَدانِ..
يُخفِّف الوحشة ويَطوي مراحل من الخوف من البعد في مَهامِه النِّسيان.
كان ضيف الخبر الوزير المكلَّف بحقوق الإنسان, فلم يَطُل ارتِفاقي بل تربّعت اهتماما بما سَيقول أحدُ أكثر النَّاس صِلةً بقضيَّتنا.
تكلّم عن السُّجناء وكرامتهم الإنسانية وجعل حقوقَهم مُثُلا مُقنَّنة, وذكر من ذلك ما لو طُبِّق بعضُه لأورَق منه السِّجن المُجدِب, ثمّ ختَم الكلام بالقول إنّ تلك الحقوق ينعم فيها جميع السُّجناء بغَضِّ النّظر عن تُهمهم "حتّى السَّلفيون.. المجرمون القتلة ينالونها وافرة" وأنّه زارهم حتَّى تأكّد من ذلك.
حوَّل كلامُ الوزير هدُوءَ لَيلَتي تلك إلى ضَجيج يسُدُّ منافذ السَّمع, وصار شُعاعُ القمر ظلاما يُغطِّي مَصابيح الفِكر, حتَّى لكأنَّه الإغماء الَّذي يقصد الشّاعر بِقولِه:
يُغمَى على المرءِ في أيَّام مِحنَتِه..
حتَّى يَرى حَسَنا ما ليسَ بالحَسَنِ
ليسَ بِسَبب وَصفه الجارح وحُكمِه المُسبَّق فحسبُ, إذ لا يُنتَظر من مثله غيرُ ذلك في نِظام أفَلَ بَدر العدل عن جوِّه..وإنّما لأنَّه أعلمنا بزيارتِه الَّتي كان في غِنى عنها لتمرير أساطيره, وكانت بعدَ أشهر من تمريغنا في رمال الحِرمان المُوحشة في إحدى أقسى فترات السِّجن, حيث العزلة في حَرُور سوءِ التَّغذية, والحرمان من العلاج, والمنع من الزيَّارة, وتأخير المحاكمة..وغمرات أخرَى لا تَنجلي.
وكان قد وقع قبل أياَّم من زيَّارته انفراج –وهي عادة متَّبعة عند زيارة كلِّ وَفد- فسُمح للأهل بالزِّيارة وإدخال بعض الأطعمة والملابس والكتب والأجهزة الإذاعية..وفرِحنا بذلك فَرحَ الحافي في الرَّمضاء بكلِّ حذاء يَجدُه.
وفي صباح اليوم الَّذي تكلّم فيه الوزيرُ ليلا, كان الحرس قد اتَّخذُوا إجراءات وتدابير كثيرة, ثُمّ علمنا أنّ وَفدا كبيرا سيزور السِّجن..
لم تطل ساعاتُ الصَّباح حتَّى هتَف في مسامِعنا قَرعُ النِّعال وطنينُ الأبواب أنَّ الوفد قد جاء, ففي السُّجون نقل عجيب للأصوات..إذ لم يكن القاطع المفتوح قاطِعَنا وإنّما القاطع الأوَّل الَّذي يُقابلُه وكان وضعُه أقلَّ سوءً من غيرِه..
وبعد دقائق خرج الوفد ويبدو أنَّه سار في باحة السِّجن ولم يدخل أغلب القواطع..
وقد علمنا بعدُ مِن نزلاء القاطع الَّذي دخل أنهم طرحوا عليه مشاكلهم..
غير أنّ ذلك لم يُثمر ولم نجِد له أثرا, بل ذكر الوزير في كلامه أنَّه لا مشكلة هناك إذ الحقوق مصانة وموفَّرة.
أطلق سَراحي في سبتمبر 2010 بعد أن شهدتُّ هذه القصّة الَّتي قد لا تَبدُو مثيرةً أوَّلَ الأمر, ثمَّ أُعِدتُّ إلى السِّجن ذاتِه في يناير 2012 ليُقدَّر لي شُهود أمر أكثرَ إثارة..
كان أوَّلُ سَجين وقعت عليه عيناي سجينا منعزلا طويل شَعر الرَّأس ذا لحية, يحمل في يَدِه كتابا, قام بالوصيد بقامته الطَّويلة ناظرا إليَّ بوجهٍ رسم الحزنُ ملامحَه, كأنَّ صاحبه غريب في سجن بيناس اسيوداد باريوس بالسَّلفادور أو سجن الدّلفين الأسود في روسيا أو غير ذلك من أرهب سُجون العالم.
ومع ذلك كانت غرفتُه قُرب الحرس بجنب النَّوافذ المعدَّة للزيارة, دون الباب الَّذي يُدخَل منه إلى ساحة القواطع, غرفةً كالفندُق بالنِّسبة لغيرها, وكثيرا ما وُضِع فيها رجال الأعمال وكبار المسؤولين.. شاهدة بذلك على تمييز شدَّ يديه بِغَرز السِّجن.
نزلتُ هذه المرَّة في القاطع الخامس, وكان الوضع أحسن من ذي قبل..ومع مرور الأيَّام والأشهر تأكَّد لي ما قرأتُه من ملامح وجه ذلك السَّجين.
فرغم كثرة بقائه في غرفته الفندقية معلِّلا نفسه بمطالعة كتبه..قرب حرسٍ في خدمته..وزيارات كثيرة يتلهَّى بها..فقد كان يَخرج إلى باحة السِّجن فيُبدئ المشي فيها ويُعيد, باحثا عن فضاءٍ أوسع يرمُق فيه بعينه غيرَ جدران غرفته الأربعة, ويتنسَّم فيه المتاح من الأنسام, ويلقى بعض السُّجناء فيُحدّثهم كذي شَوق بسَط الفراقُ فراشه على قلبه فيبُثُّ أشجانه لمن يُلاقي.
وكان يدخلُ مِن حين لآخر القاطع الثَّاني فيزداد قُربا من السُّجناء باختلاف تُهمهم.. فيتعاطى معهم الأخبار ويتبادل النُّكتَ والطَّرائف على مجالس الشَّاي فينال بذلك أُنسا يبتَغي الثَّواءَ على جناحه.. وكثيرا ما يناديه ويقعطع عليه جلسَتَه المؤنسة تلك حرسيٌُ دون الحراس الذين كانوا يذودون عنه الناس أمام وزارته بالأمس.
أمضى نحو ثلاثة أعوام في السِّجن استوحش فيها وتظلَّم وطالب بإنصافه, ورأى فيها حالات متفاوتة من الظلم مرَّ بها السُّجناء حتَّى صرَّح له الحقُّ عن مَحضِه ووطَّن نفسَه على السِّجن.
كنتُ أتذكَّر ذلك الوزير الَّذي سَمعتُ كلامه قبل سنوات وأنا في القاطع الثَّاني.. يومَ زار السِّجن للحظات وبخل على أكثر القواطع بالزِّيارة واتَّهم السُّجناء وادَّعى توفير حقوقهم وتحقيق العدالة.. وقد صار سجينا يتردَّد على ذلك القاطع ويجتمع بنزلائه ويتحدَّث معهم ويُلاطِفهم في ظلال شِدَّة تذهب فيها الأحقاد.
نعم ذلك الوزير السّابق الَّذي كان منه ما كان هو هذا السَّجين الباحث عن قَبسِ أُنسٍ بينَ السُّجناء..لا أذكِّر به للتَّشفِّي ولا للشَّماتة, وإنَّما للاعتبار..فقد قيل: لو دامت لغيرِك ما وصلت إليك, وإن كنتَ تشُدُّ بزائل أزرَك فأرخِه..وهو مَورد وَرَدَه كثير من النَّاس... فهل من معتَبر!؟
من صفحة محمد سالم المجلسي
((سجين سابق يروي قصته مع وزير في سجن نواكشوط))