الحلقة الأولى:
• المقدمة وإعلان المحاور الأساسية؛
• الأسلوب المتَّبَع اليوم في تخليد المقاومة وأبطالها؛
• أين نحن اليوم من أدب الاختلاف الذي كان سائدا بين أقطاب الرأيين المهادن والمقاوم؟
• نازلة الاستعمار وتعقيداتها.
المقدمة والْمَحاور:
بسم الله الرحمٰن الرحيم، الحمد لله رب العـٰلمين،
والصلاة والسلام على سينا محمد خاتم النبيئين وعلى آله وأصحابه أجمعين
يقول أبو الرَّيحان محمدُ بنُ أحمدَ الخوارزميُّ البَيْرُونيُّ في كتابه المسمّى: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة": «ثم إن الخبَر عن الشيء الممكنِ الوجود في العادة الجاريةِ يقابل الصدق والكذبَ على صورة واحدة؛ وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لِتفاوت الهمَم وغَلَبَة الهِراش والنزاع على الأمم. فمِنْ مُخبر عن أمر كذب يقصِد فيه نفَسه فيُعظم به جنسَها، لأنها تَحتَه، أو يقصدها فيزري بخلاف جنسه لفوزه فيه بإرادته، ومعلومٌ أن كِلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذموميْن؛ ومِنْ مُخبِر عن كذب في طبقةٍ يحبهم لِشُكْرٍ أو يُبغضُهم لِنُكْرٍ؛ وهُو مقُارِب للأول، فإن الباعِث على فعله من دواعي المحبة والغَلَبَة؛ ومِن مُخبرٍ عنه مُتقرِّبا إلى خيرٍ بدناءةِ الطبع أو مُتَّقِيا لِشَرٍّ مِن فشلٍ وفَزَعٍ؛ ومن مُخبِرٍ عنه طِباعا، كَأنه محمولٌ عليه غيرُ مُتمكِّن من غيره؛ وذلك من دواعي الشَّرارَة وخُبْث مَخابِئ الطبيعة؛ ومِن مُخبرٍ عنه جَهلا، وهو المقُلِّد للمُخبرين وإن كَثروا جُملَةً أو تواتروا فِرقةً بعْد فِرقة، فهو وَهُمْ وسَائِطُ فيما بيَن السامع وبين المعتمَد الأول. والمجانبُ للكذب المُتمسكُ بالصِدق هو المحمود الممدوح عِند الكاذِب فَضْلا عن غيره. فقد قِيل: قولوا الحَق ولو على أنفُسِكم».
وفي مجتمعنا، ما زال الحديث في التاريخ والأنساب والأعلام مربوطا بالمباهاة والمجاملة والعصبيَّات البدائية، مما جعله فى منأى عن البحث الجدّي والموضوعي المدوَّن.
ومن أكثر موضوعاتنا التاريخية والسياسية استعصاء على البحث العلمي الهادئ، موضوع المقاومة، أي مقاومة الموريتانيين للاستعمار الفرنسي، لما يحويه من محاذير وأساطير وتعريضات وإطلاقات يريد أهلها، عن قصد وعن غير قصد، وضْعَها مَوضِعَ المسلَّمات وتلقينَها للعوامّ والأطفال وتأليبَهم على إخوانهم وأسلافهم من أصحاب الرأي المخالف، عبرَ الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وحتى عبر المقررات المدرسية. وهذا مما يضطرُّ المرءَ إلى الكلام في غير تخَصُّصه ومجاله.
فالدعايةُ، كما يقول كاتب الاجتماع الأمريكي إريك هوفر، لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خِداع أنفسهم.
ستتعرض هذه الورقة للموضوع، بحول الله تعلى، عبر أربعة محاور وخاتمة ووثائق مُلحَقة، مع مدخل تمهيديٍّ يتحدث في جزئه الأول عن الأساليب المتّبعة اليوم في تخليد المقاومة الموريتانية وأبطالها؛ وفي الجزء الثاني عن نازلةِ الاستعمار وتعقيداتها، مع طرح بعض التساؤلات الواردة إلى الأذهان.
سيتم الحديث في المحور الأول عن حالة التسَيُّب التي سبَقت الاحتلال الفرنسي، وما عرفته تلك الحِقبة من فظائع الظُّلم والاقتتال الدائم والفوضى؛
ثم تخلُص الورقة في الجزء الثاني من هذا المحور إلى الحديث عن الخلفية الاجتماعية والشخصية للشيخ سيديَ بابَه واجتهادِه، والمكانةِ الاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية التي ورثها، وجعلت من المستبعَد إلى حدٍّ كبير أن يكون قد اتخذ قرارا أو موقفا من هذا النوع لأغراض دُنيوية أو شخصية؛
وفي الجزء الثالث من هذا المحور، تتطرّق الورقة باختصار شديد لمذاهب الشيخ سيديَ بابَه الفقهية والعَقَدية والسلوكية والسلطانية، وكيف أدت تلك المذاهبُ غيرُ المعهودة في البلاد إلى خلق عداوات وخصومات مازالت بعضُ رواسبها موجودة في الأوساط الدينية والعلمية.
أما الجزء الرابع والأخير من هذا المحور، فهو مُخصَّصٌ للحديث عن مشروع الشيخ سيديَ الكبير وابنِه الشيخ سيدي محمد الجهادي ودعوتِهما الإصلاحية، وكيفَ استفاد الشيخ سيديَ الحفيدُ من تلك التجربة ورأى ما لاقَتْه من صعوبات وعراقيل ذاتية وموضوعية.
في المحور الثالث، يتم الكلام بشيء من التفصيل عن الأسُس الشرعية والواقعية التي بنى عليها الشيخ سيديَ بابَه موقفه: كضرورة نصب الإمام؛ وحكْم التعامل مع الكافر المتغلّب الذي لا يتعرّض لدين المسلمين، بالإضافة إلى أحكام الجهاد والهجرة بالدين وحُكمِ المعاملة مع النصارى المستعمرين، وكيف كانت علاقة الشيخ سيديَ بهم؟ وكيف كان الفرنسيون ينظرون إليه؟
ثم تخلُص الورقة في محور رابع إلى مآلات الأمور والرأي الآخر، وما كانوا يعتمدون عليه وكيف تغيرت نظرة أكثر المقاومين وتراجعوا بعد أن بَدا لهم شيءٌ آخر؟ مع شيء من الكلام عن علاقات شيوخ وأقطاب المقاومة مع النصارى المستعمرين: كالشيخ العلامة ماء العينين وأبنائه العلماء المقاومين، مع بضع النماذج من المراسلات والمعلومات والوثائق ذات الصلة.
وكذلك العلاَّمة سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ ورجوعه عن موقفه الأول بعدما تبين صوابُ المهادنة مع الفرنسيين وانعدام آفاق حقيقية لرأيه الأول.
في أيامنا هذه، وعلى أمواج إحدى الإذاعات الناشئة، كان أستاذٌ يحلّل ويحكُم بأن العلماء الذين أفتوا بمهادنة المستعمر، إنما فعلوا ذلك انتقاما من العرب حمَلَةِ السلاح الذين كانوا يهمشونهم! ألا يحق للموريتانيين أن يسألوه: أيُّ هؤلاء الْمُفْتين كانت تهمشه العرَبُ أو العجمُ؟
وفي أحد البرامج التلفزيونية المخلدة لذكرى الاستقلال وأمجاد المقاومة، كان أحد المتكلمين من ذوي الخيال التاريخي الواسع يَعُدُّ، من بين المجاهدين الشهداء، رجالا قاموا بعمليات سطو كبيرة شهيرة وموثَّقة ومؤلمة، وكان من بين ضحاياها علماءُ نبلاءُ وسادةٌ صُلحاءُ وطُلابُ علم وفقراءُ ومساكين... وليس هذا هو المستشكَل وحده، لاطِّراده في أدبيات نوفمبر، لكنَّ الطامَّة الكبرى هي أن "المجاهدين" المذكورين قد فعلوا فَعْلاتِهم الشنيعةَ هذه قبل دخول الاستعمار الفرنسي بسنوات، بل بعقود!
وبعد بحث شاقٍّ عن رابط يربط الغارَات المذكورة بمجاهدة النصارى، لن تجد أكثر من كونِ أولئك الضحايا سيخضعون هم وأبناؤهم، بعد ذلك بعدَّة سنوات، للاستعمار الأوربي، كغيرهم من سكان بلاد البيضان والسودان وجزيرة العرب والشام والعراقيْن والهند والسند والمغرب والجزائر وتونس...
وقد أحسن، واللهِ، العلاَّمة الشيخُ ماء العينين بنُ الشيخ محمد فاضل حين تراجع عن فتوى أصدرها، وهو في أوج حربه مع القوات الفرنسية المستعمِرة لموريتانيا، تُبيح لبعض القبائل الموالية له أموالَ من لم يهاجر من المسلمين ورضي بالعيش تحت مظلة الاستعمار. إلى أن راسله أخوه الشيخُ سعد أبيه بخطورة فتواه وما سببته من حرج للمسلمين، الذين لا يخرج خضوعهم للاستعمار عن التأوُّل أو عدم الاستطاعة، وكلُّ هذا لا يبيح انتهاك حرماتهم... فتأثر الشيخ ماء العينين بتلك الرسالة ورجع عن فتواه بكل نزاهة، محذِّرا أتباعه من التعرُّض لأموال من لم يهاجر عن الفرنسيين، قائلا: «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إلى جماعة الرقيبات، الجماعةِ الراضيةِ الَمرضية، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. اغزوا النصارى قبل أن يغزوكم وأخرجوا الخمس من غنائمكم ووقروا دين الله، ولن توقروه بشيء أعظم من توقير من ساكن الكفارَ من المسلمين، فإن لهم العذرَ الشرعيَّ؛ وإياكم أن تأكلوا أموال الناس بالباطل وبنا وباسم الهجرة. والسلام» .
وعلى الرغم من فتوى الشيخ ماء العينين هذه وتحذيراته، لم تزل إغارات النهب وانتهاك الحرمات والأعراض متواصلة بعد هذه الرسالة وقبلها. أما ما قبل دخول الفرنسيين، فحدث ولا حرجٌ.
أين نحن من أدب الاختلاف الذي كان سائدا بين المهادنين والقاومين؟
على الرغم من تباين وجهات النظر واختلاف الزوايا التي نظر منها كل من الشيخين ماءِ العينين وسيديَ بابَه إلى نازلة الغزو الفرنسي، إلا أن مراسلاتهما كانت مملوءة علما وأدبا واحتراما متبادلا وحَقًّا.
ولما راسل العلامةُ سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ الغلاَّويُ الشيخَ سيديَ بابَه بموقفه الأول، الموجِبِ للجهاد على أهل هذه البلاد، خاطَبَه الشيخُ سيديَ بابَه قائلا: «لا يخفى عليَّ أنك لم تُرِد بهذا الأمر أكلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكنْ أرى أنك لم تمعن النظر في أحوال الزمان والمكان» .
وكانت للعلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيِّ علاقاتٌ وطيدة وقصةٌ عجيبة مع رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجهةِ إلى الزوايا بشأن المعاملة مع النصارى.
وقد كتب الشيخُ سيديَ بابَه في الأمير بكار ولد اسويد أحمد كلاما عظيما ومدحا كثيرا، على الرغم من اختلاف وجهتي نظرهما في المسألة. أما الأمير أحمد ابن الديد، فهو من الشيخ سيديَ بابَه بمنزلة الابن، وعلاقته الخاصة بأصله وفرعه أشهر من أن تُذكر...
أما علاقة أبناء ما يابى بالشيخ سيديَ بابَه ومراسلاتهم وإنصاف بعضهم بعضا، بل ومدح بعضهم بعضا بالشعر والنثر وطلب الاعتذار وتبادل الهدايا بعدما هاجر أبناء ما يابى إلى المغرب والمشرق ورأوا أحوال الأمة الإسلامية هناك، فإنها عبرة لأصحاب الحق والإنصاف.
قبيلة لقبيلة أو مجموعة لأخرى أو مواصلةٍ لتقاليدَ لُصُوصيَّة ومعيشيَّةٍ سابقة على الاستعمار ... كل هذا لا يُسوِّغ لجيلنا من سكان هذه البلاد أن يصف هؤلاء الشجعانَ بما لا يليق. ليس هذا أخلاقيا ولا حضاريا ولا يدخل في تقاليد الأمم. فما دامت المواجهات قد وقعت وكانت موجهة ضد الغزاة المخالفين في الدين والحضارة، وما دام الضحايا قد سقطوا أثناء مواجهاتهم الباسلة مع المستعمر البغيض، فهذا يسمى مقاومة.
إلا أن الحقيقة التاريخية لا تُسَوَّق تسويق البضائع الاستهلَاكية. والتاريخ لا يحتاج إلى مساحيقَ للتجميل، كما كان الملك الراحل الحسن الثاني يقول. وإنما يحتاج التاريخ إلى شيء من الموضوعيّة والنزاهة والهدوء والتأصيل، والتذكيرِ أحيانا بالمعلوم منه بالضرورة.
نازلة الاستعمار وتعقيداتها:
شكَّل الغزو الفرنسي للبلاد نازلة جديدة، لم يوجد قبلها من النوازل ما يمكن لقادة المجتمع أن يقيسوه عليها، مما دفع بعضهم إلى إعمال النظر وبذل الجهد واستعمال أدوات علمية وفكرية غير مسبوقة.
فإلى جانب سلبيات الاستعمار وقبائحه وظلمه وضرائبه وعقوباته، كانت هناك أيضا فظائع معروفة، يقوم بها جبابرةُ الصحراء وحملةُ السلاح من أبناء المجتمع، كإزهاق الأنفس ونهب الأموال يوميا وانتهاك الأعراض وإذلال الناس وفرض الغرامات، إلى غير ذلك من الممارسات المتأصلة التي لا يُرجَى لها زوال ولا يُخشَى لها عِقاب.
ولا يدخل هذا التذكير بالواقع في تسويغ الاستعمار واعتباره الحلَّ الوحيد، وإنما هو توصيف واقعيٌّ عامٌّ للحالة النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي اتُّخذت فيها قراراتٌ حاسمةٌ، ما زال الدارسون والأجيال المتعاقبة يحاكمونها؛ والتاريخُ يحكُم عليها. والله يحكم لا معقب لحكمه.
كان العلاّمة المختار ابن ابلول الحاجيُّ شديدَ البغض للمستعمر وما يتصل به، فسُئل يوما أيُّهما أفضل: السيبةُ أم الاستعمار؟ فقال: «هذا سؤال خبيث، تريدني أن أزكّي إحدى القبيحتين»!
لكنَّ الشيخ سيديَ بابَه، وانطلاقا من مسؤولياته ومركزه وزمانه، لم يتردّد في تقَبُّل ودَعْم أخفِّ الضرَرَيْن.
فما الذي دفعه إلى ذلك؟ وفي أيّ ظرف تمَّ؟ وهل كان بين يديه من خيارات أخرى؟ وهل كان من بين تلك الخيارات ما من شأنه أن يُفيد المسلمين ومشروعا سياسيا واجتماعيا ورسالة دينيةً ما فتئ الرجل وآباؤه يحمّلون أنفسهم جزءا من المسؤوليته عنها؟
وإذا افترضنا حصول شيء من ذلك وهزمناهم، فهل في الوضعية السابقة على الاستعمار ما يُغْري بإرجاعها والتفَيَّؤِ بظلالِها؟
هل كان التمَوْقُع بأبي تلميت وآوكار استراتيجيا يَسْهُل منه الكَرَّ والفَرُّ ووصولُ المدَد؟ وهل كانت إعادةُ التموْقع والتحرُّكُ شمالا مُتاحَيْن للشيخ سيديَ بابَه ومَن في سِلْكِه؟ وهل كان إلى جانب الشيخ سيديَ بابَه جيشٌ أو قبائلُ ذاتُ شوكة واستعداد ومِراس على الإغارة من بعيد والغزو وجلْب الغنائم؟
هل كان من الممكن، أصلا، صَدُّ القوات الفرنسية الزاحفة من أزواد والحوض والجزائر والسنغال؟ وممّن ستكون التركيبة الأساسية للجيش المدافع؟ أمِن زوايا ذلك الوقت العُزَّل المتعطشين لقوة قاهرة تردع الظلم وتبسُط الأمن؟ أم مِن أهل شوكته المتدابِرِين والمرتبطبن باتفاقيات وروابط اقتصادية وأمنية سابقة مع الفرنسيين؟
مِسكِينة هي المكسيك، لبعدها من الله وقُربِها من الولايات المتحدة الأمريكية! هكذا كان رئيس المكسيك الأسبق وبطلُ حرْبها مع فرنسا بورفيرو دياز (Porfirio Diaz) يعبِّر عن صعوبة موقعه الجغرافي ووضعِه الاستراتيجي وخشونة جارِه.
بقلم/ احمد بن هارون ابن الشيخ سيديّ