إذا صرصر البازي فلا ديك صارخ
محمد سالم المجلسي المجلسي
عن الصُّنَّاع...
أورد أبو الفتح الأبشيهي في "المستطرف.." قصَّة خلاصتها أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان أوحدَ أهل زمانه, لكنَّه افتقر بعد غناه, وكرِه الإقامة في بلده, فسافر إلى بلَدٍ آخر, عمِل فيه في الصياغة أجيرا عند معلِّم يُعطيه كلَّ يوم درهمَين, وهو يستحقُّ عشرة دراهم.
كان ذلك المعلِّم يبخسُه قدرَه, ويمنعه حقَّه, رغم مهارة العامل وبراعتِه الفريدة.
وذاتَ يوم طلب ملكُ البلدة من المعلِّم إصلاح أساورَ من ذهبٍ مرصَّعة بفصوص في غاية الحسن صُنعت في غير بلدتهم وكانت قد تكسَّرت..فعجزَ المعلِّم عن إصلاحها, ولم يجد من عمالِه مَن يقدر على ذلك, فظهر غمُّ المعلِّم, وبانَ حُزنُه, فأشفق عليه عاملُه الأجير, ورأى أنّ من المروءة أن يُصلحها له, فأصلحها وردَّها كأحسنِ ما كانت, فأعجبت الملك, وزعم المعلِّمُ أنَّه هو مَن أصلحها, فأخذ المكافأة الكبيرة, ولم يَشكُر عاملَه, ولم يَزِده على دِرهَمَيه الفضِّيين.
ومضت أيام قلائل ..فأراد الملك زَوجَين من تلك الأساور, فأخبر المعلِّم, فأخبر المعلِّم العاجز الصانع, فبدأ العمل, والمعلم لا يزيده شيئا على الدِّرهمين في كل يوم, ولا يشكره, ولا يعِده بخير, ولا يتجمَّل معه، فرأى من المصلحة أن يَنقش على زوج الأساور أبياتا يَشرح فيها حالَه ليَقف عليها الملِك، فنقَش في باطن أحدِهما هذه الأبيات نقشا خفيفا, يقول:
مصائب الدَّهر كُفّي..إن لم تَكفّي فعِفّي
خرجت أطلبُ رزقي.. وجدت رِزقي توفّي
فلا بِرِزقيَ أَحظى..ولا بِصَنعةِ كَفّي
كم جاهلٍ في الثُّريا..وعالمٍ متَخَفِّ
وأعطى الصانع السوارَين للمعلِّم فلم يتفطَّن للأبيات لجهله بالصَّنعة, حتَّى سلَّمهما للملك, وأخذ جائزتَه, ورسخت منزلتُه.
في اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر التي عمِل لها السِّوارين فحضرت وهما في يَديها، فأخذهما ليُعيد نظره فيهما وفي حسن صَنعتهما، فقرأ الأبيات، فتعجب وقال: هذا شرح حال صانِعهما, والمعلم يَكذب، فغضِب عند ذلك، وأمر بإحضار المعلم, فاعترف.
وجيء بالصانع فقصَّ نبأه, ونال المنزلة الكبرى عند الملك, ثمَّ عفا عن المعلِّم وقبِله شريكا له في مهنتِه..
فبان بذلك فضله, وظهرت مُروءته, ولم يُعالج مصائبَ دَهرِه إلَّا بالجميل.
قد لا تكون هذه القصّة بعينها واقعية, لكنَّ معانيَها حقيقية, ولا تزال أحداثُها نَشِطة مدى الأيام.
فرغم مشاركة الصُّنَّاع في مجتمعنا في الأخذ بأسباب المجد والسُّؤدد حيث أنجبوا من أفاضل العلماء وأكابر الأدباء وأعيان الكُرماء..وغرسوا من معاني المسالمة والمُكارمة وحُسن الجوار, إلا أنّهم تميَّزوا بما كان لهم به فضل على الجميع.
تميَّزوا بتلك الحِرَف والمِهَن والمهارات التي كانت تُوفِّر للكاتِب كتابَه وجَفيرَه وقلَمه ولوحَه وزينَتها, وتُقرِّبُ للطَّبيب والمزارع والمنمِّي والتاجر وسائلَهم, وتَصنع للراكبَ أدوات رَحلِه, وللمحارب أسلحَتَه, وللبيت آنيَتَه وفراشَه, وللأفراح تُحَفَها وحُلَلَها..وغير ذلك مما يُشكر لأهلِه, ولا يُنكر شيء من فضله.
ومع ذلك ظلموا واحتُقروا بغير حقٍّ, فقيل فيهم ذلك القول الذي لا يقوله مسلم:
شهادة القين تردُّ أبدا..
ومُقتدٍ به يُعيد سَرمَدا
لأنّه مُشتهرٌ بالكذبِ..
وأصلُه يَهوديٌ في النَّسبِ
وتمثَّل أحد المغنِّين المشهورين ذلك القولَ الزُّور والمكرَ الكُبَّار الذي أشيع عنهم, فقال:
لعمري وفي ترك النساء مزيَّةٌّ..
ومَن يتَّبع أهواءَه يُمسِ نادِما
لَهِمتُ بحدَّاديةٍ منذُ أزمُنٍ..
وقد علِمَت أنِّي بها كُنتُ هائما
ولم أرَ فيها خيرَ ذلك مرَّةً..
ولا خيرَ في الحدَّاد لو كان عالمَا
إنَّ حالَ كثير من الناس مع هذه الفئة كحال ذلك المعلم مع الصانع أو أسوأ, يُقابل المُحسنَ بالإساءة, لكنَّ ذلك لا يحمل على مخالفة سَنَن الكرام الذين هم مفاتيح للخير ومغاليق للشر..بل يحمل على مواصلةِ العطاء الذي تَبقى منفعتُه وذِكرُ أهله الجميل, على حدِّ قول يحيى بنِ زياد:
أعَجِّل ما عندي إذا كنتُ فاعلا..
ولستُ بقَوَّال له اليومَ أو غَدَا
لأنِّي رأيتُ المال غيرَ مُخلِّدٍ..
لَبِيبا, وأبصَرتُ الثَّناءَ مُخَلَّدَا
وعلى هذا السَّنن سار ذلك الصانع مع المعلِّم حيث عفا عنه, وتجاوز, فذلك أقرب للتقوى, وأدعى لإحياء صادق المودَّة, وكان من صفة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أنه لا يجازي بالسَّيِّئة السَّيِّئة ولكن يَعفو ويَصفَح, كما روى البخاري.
ولا بدَّ هنا من بيان نقاط تحتاج إلى فهم وممارسة:
1. يجب إنكار كلِّ مسائل الجاهلية, من تأليه للبشر, وتسلُّط للكبراء, ودعوى منتنة, وفخر بالأحساب, وطعن في الأنساب, وبطرٍ للحقِّ وغمطٍ للناس, فيجبُ إنكار ذلك بشدَّة مِن أي شَخصٍ صدَر, وبالحقِّ الشرعي والعدل القرآني لا بجاهلية مثلِه.. (أفحُكمَ الجاهلية يَبغون)
ولا ريب أنَّ تذكُّر الأخوَّة الإيمانية الصادقة من خير ما يُعين على تَجاوز تلك الجاهليات المقيتة, فكلمة "إنما المؤمنون إخوة" تعمل في النفوس الكريمة عملَها وتؤثر في المشاعر الحية, ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم) كان ذلك مسحا للفروق, ومحوا لمساوئ الاسترقاقِ من النُّفوس قبل الواقع.
2. يَنبغي تلقِّي المعتذر بصدر رَحب, وقَبول رجوع المعتدي عن اعتِدائه, وإعانتِه على معالجة دائه, فعِباد الله يُخطئون بالليل والنهار, فمَن زلقَ في جاهليةٍ ثمَّ ارتفع عنها وصَقل عنه أوساخَها استُحسن منه ذلك, وقُبلَ اعتِذارُه, وقد أحسن مَن قال:
إذا اعتَذر الجانِي مَحا العذرُ ذنبَه..
وكلُّ امرئٍ لا يَقبل العذرَ مذنبُ.
وأما مَن لم يعتذر فيُواجه بقدر ظلمه وإجرامه.
3. يُوجد مسعِّروا خصومات ومُوقدوا نزاعات لا يُحبون توبةَ تائب, ولا يَرجون اعتذار معتَذِر, وفي المقابل لا يتخذون المظلومين إلا طُبولا يَقرَعونها لغاياتهم الشخصية, ويَصعدون على جُدُر مآسي المحرومين لأهدافهم الأنانية, فهؤلاء لا يرومون إصلاحا بقدر ما يرومون تواصل النَّعرات واستمرار الخصومات, فإذا لم يجدوها جعلوها بينهم, فهُم:
كالنارِ تأكل بعضَها..
إن لم تَجد ما تأكُلُهْ.
فالحذَرَ الحذرَ من سُبُلهم..فشتَّان ما بين ذي فهم عميقٍ يُعجِبه هدوءُ الحصى في قعر الماء الصافي, وبين سَطحيٍّ لا يتجاوز نظره الأمواج الصوتية المضطربة, فيتفاعل معها مدًّا وجَزرا.
والله الموفق.