بدأتُ رحلتي سنة 2004 في حدود الثانية عشر زوالا من محطة الرياض "ابيكة 9" في سيارة
نقل صغيرة متجهة الى مدينة روصو الموريتانية بعد ان ودعت الاهل بالعناق والدموع , لأن غيابي سيكون لأكثر من سنة كاملة.
وعلى مدى الرحلة التي امتدت لحوالي 3 ساعات كنت أفكر في الاهل... في الوطن...وتدور في ذهني عدة تساؤلات جعلتني أغيب عن مَن حولي من الركاب ولا أشاركهم الحديث على غير عادتي.
وصلنا بعيد الثالثة بقليل...صليت الظهر والعصر جمعا وقصرا ...عبرتُ النهر في قارب صغير الى الضفة السنغالية ...بحثتُ عن سيارة متجهة الى العاصمة داكار شريطة أن يكون من بين ركابها موريتانيون....أخيرا عثرت عليها....يوجد بها موريتاني واحد يتحدث الحسانية وينتسب لإحدى القبائل المشهورة...
جلست بجنبه في المقعد الامامي وكأني عثرت على شقيقي.
انطلقنا بعد صلاة العصر...لم تبقَ شاردة ولا واردة الا وتحدثتُ فيها مع رفيقي..كان لبيبا أديبا..مُلمًّا بالحوادث المهمة من تاريخ البلاد ..طيّبَ الحديث ..لا يكاد يُسمع صوته...وباختصار "أخبارو ماهي ياسرة" عكسي تماما فأنا من أهل "لغبه لكبار"
توقفنا في مدينة "اندرْ" لصلاة المغرب..فأسرعت الى البقالة وجلبتُ له ما لذ وطاب من المشروبات ...وعند محطة "كَبَ ميرْ" طلبتُ له اللحم المشويّ "والاتاي" أثناء استراحة قصيرة.
احسست بالفعل أن الرجل يخفي وراءه شخصية غير عادية , فما افتتحت موضوعا الا وجدت عنده منه علما ومعرفة , ولولا أني مسافر الى موسكو في تمام الساعة الثامنة في اليوم الموالي لأقمتُ معه أياما وربما أسابيع لأغترف من بحر علمه وسعة اطلاعه وحسن سمته وعظيم أدبه.
وصلنا مدينة داكار في حدود الواحدة ليلا , وبما أني مسافر في الصباح فلا بد أن أكون في المطار الساعة السادسة أي قبل موعد اقلاع الطائرة بساعتين , عندها التفتُ الى رفيقي بعد أن تمنيتُ في نفسي أن يعرض هو عليّ الامر دون أن أسأله وقلتُ له : يبدو أنني سأذهب معك الى حيث تسكن فأنا لا أعرف أحدا هنا ولم يتبقى على سفري الا ساعات محدودة , وأحتاج الى مكان أرتاح فيه قليلا ثم أغيّر ملابسي وأغادر , فأجابني , بل فاجأني في الحقيقة بعد أن تنحنحَ ومحْمحَ :
"أهيهْ...يخيْ عندي عنكم ألّا لاهِ تسمحولنَ...الدار ال واعدينْ زاد احنَ الا حكماً ضيوف اعليهَا....وَالّا لاهِ نتوادعو من هون"...قال ما قال بعد ان حمل حقيبته في يده وأوقف سيارة أجرة وتركني في مكان لا أعرفه ولا أعرف فيه أحدا.
لكن فتاة لا يتجاوز عمرها الثامنة عشر كانت تستمع الى حديثنا منذ ركبنا السيارة في روصو , وما دار بيننا الآن فهي سوننكية موريتانية من سيلبابي تعرف الحسانية ربما أكثر منا ...اقتربتْ مني وقالت :
انت غريب في هذه المدينة ومسافر بعد ساعات , فتعالَ معي الى بيتنا , فهو أولا : قريب من المطار لأن والدي يعمل في شركة "آسكنا" , وثانيا : ستكون عندنا في مأمن من اللصوص حتى يحين وقت سفرك وتغادر في رعاية الله..
ألف فكرة دارت في خاطري في تلك اللحظة...ربما تجرني الى كمين تكون فيه نهايتي , قلتُ في نفسي ....أو لعلها صادقة , فقد رأت رجلا تخلى عنه رفيق كان يفترض فيه ان يحيطه بالعناية والرعاية حتى يسافر بعد ساعات..
استقر رأيي أخيرا على الموافقة والذهاب معها وليكن ما يكن , بل لم يكن أمامي الا الموافقة.
أوقفتْ سيارة اجرة...تكلمت مع السائق بالولفية...انطلق بنا يخترع الشوارع والازقة المتعرجة , وقد أرخى الليل سدوله , وهدأت حركته وخفتت أضواء المدينة...لم تكلمني الفتاة ولم أكلمها طوال الرحلة حتى وصلنا الى منزل أسرتها..
نزلتْ ودخلت قبلي..وأنا أمام الباب انتظر ما الله بي صانع....وما هي الا لحظات حتى أقبل افراد الاسرة كلهم ..يسلمون عليّ فردا فردا وكأنني واحد منهم.....بعد انتهاء السلام ..أخذتني الفتاة الى غرفة نوم راقية ...بها سرير فخم , ومرايا , وتكييف , وحمام داخلي يوجد به الماء الساخن والبارد....قالت استرح ونَمْ قليلا فأمامك سفر طويل وشاق...قلت جزاك الله خيرا ..لكني لا أستطيع النوم ..فأنا مرهق وأخشى ان أستغرق في النوم فأتأخر عن الرحلة , علما أن الرحلة بين داكار وموسكو تكون مرة واحدة في الاسبوع...قالت سأوصي والدي أن يوقظك لصلاة الصبح...
وما إن خرجت وأغلقتْ الباب وراءها حتى ذهبتُ في نوم عميق..
قبيل الخامسة بدقائق أيقظني والد الفتاة لصلاة الصبح قائلا : توضأ فالجميع في انتظارك في "الحوش" لتؤمّهُم في الصلاة...
خرجتُ إليهم.. واذا بجميع أفراد الاسرة أطفالا...نساء ..رجالا قد اصطفوا على حصير وبسطوا أمامهم "إلويش"...فتقدمتُ وصليت بهم ودعوت لهم ...ثم أخذتني الفتاة الى غرفة اخرى فيها طاولة للطعام قد وُضع فوقها كل شيء يتعلق بوجبة الافطار الصباحي , حتى "برّاد أتاي طالع" إضافة الى كوب ساخن من نسكافيه..
تعجبتُ وتذكرتُ رفيقي وقلتُ بيني وبين نفسي :
الفضيحة عكَـدْ كيفت الستره عكَد.....مرْ يفظحك يالمفظوحْ"
قلتُ للفتاة ابعثي من يأتيني بسيارة أجرة تنقلني الى المطار فقد حان وقت الذهاب , قالت : والدي ينتظرك بسيارته فهو أيضا يعمل بالمطار....غيّرتُ ملابسي ورتبت حقيبتي وناديتها ..أخرجتُ بضعة اوراق من العملة الصعبة كانت في جيبي وناولتها اياها كردِّ جزء بسيط من جميلها , فلم تزد أن قالت : "نحن لا نبيع ضيافتنا ولا نأخذ عليها مقابلا , رافقتك السلامة"
زاد إعجابي بهذه الاسرة السوننكية الكريمة , وزاد تعجبي من أسرة بيظانية أنجبت ذلك النذل البخيل الذي تخلى عني ليلة البارحة.
أوصلني الوالد للمطار .. واخذ حقيبتي وحملها بنفسه الى داخل المطار وتولى عني كل إجراءات السفر , ولم يزد أن عانقني وقال : هذا رقم هاتفي ..حين وصولك موسكو لا تنسى أن تطمئننا على سلامة وصولك.
فلما ابتعد خطوات وولى ظهره مغادرا , نظرتُ اليه فاغرورقتْ عيناي بالدموع ولوحتُ له بيدي حتى توارى عن ناظري...وقلتُ بخٍ بخْ..
هنيئا لوطن أنجب مثلك........ ولئن كان أنجب رفيق الامس , فقد عوّضه بك وبأسرتك..
أحسنتم والله صنعا...وكرُمتم منبعا وطبعا..
"ولا نامت أعين الجبناء التعساء"
بعدها لم ألتقِ أبدا بهذه الاسرة الكريمة مع الاسف , كما لم ألتقِ بذاك الرجل اللئيم ولله الحمد.
قصة واقعية بقلم/ محمد محمود محمد الامين