معاوية ولد سيدي أحمد الطائع .. في ذاكرتي
اعتذرت في منشور سابق عن الكتابة حالا عن الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع حفظه الله، وبدا لي أن كلامي لم يكن واضحا ولا مقنعا. واعتبره البعض تهربا أو هروبا صريحا، واعتبره البعض الآخر جفاء غير مناسب، إلخ،،، و اليوم وقد أثار معالي الوزير و الأخ العزيز عبد القادر ولد محمد شهيتي للكتابة، فإني أتراجع عن كلامي بالأمس و أبدأ سلسلة كتابات عن الرئيس معاوية كما هو في ذاكرتي؛ راجيا من الإخوة والأصدقاء – اصحاب الرأي الآخر – احترام الصفحة و الالتزام بضوابط الأخلاق و الإنصاف و أدب الاختلاف.
لقد تميز الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع حفظه الله بعدد من الصفات كانت ربما سببا لبقائه في الحكم لأكثر من عقدين من الزمان. و منها ما يتعلق بنشأته و طبعه وشخصيته، و منها ما يتعلق بتكوينه العسكري والمهني. و منها ما كسبه من ممارسة السلطة ومواجهة الضغوط و الأزمات. يُعرف عنه منذ الصغر الميل إلى الانزواء والانطواء و الابتعاد عن الأضواء و عن مخالطة الناس و صخب الشارع و مجالس الغوغاء. كما يُعرف عنه الالتزام و الجدية و الصرامة و الحزم و الانضباط مما جعله واثقا من نفسه و عنيدا و صعب الانقياد و مستعدا للتحدي. هذا بالإضافة إلى طبائع أخرى مثل الحداثة و العصرية و الأناقة في الذوق و الملبس و خفة الظل. و الحداثة و العصرية هنا بمعنى أنه استطاع مبكرا التحرر من الأفكار و الممارسات و العادات المتخلفة و الانتماءات الضيقة للجهة أو القبيلة أو العرق و اللون، إلخ… تزوج من السيدة “ساديا كمال” (عليها رحمة الله) من خارج الأطر التقليدية السائدة تأكيدًا وتثبيتا لاستقلاليته و ثقته بنفسه. واختار التوجه إلى القوات المسلحة رغم كونه وُلد وتربى في محيط “الزاوايا”.. لم يُعرف عنه التعلق بالمال و لا الترف و لا الفضول ولا حتى حب الرئاسة..و كان وقته بالأساس موزع بين البيت و المكتب و القراءة و صلة الأرحام.
وصل إلى الرئاسة في ظروف من عدم الاستقرار في البلد لم يسبق لها مثيل، حيث توالى على رأس السلطة في 5 سنوات و نيف 3 رؤساء و 5 وزراء أول منهم 4 رؤساء حكومة بصلاحيات واسعة تكاد تكون منافسة لصلاحيات رئيس الدولة.. تعاقب هؤلاء على دفة الحكم بسرعة هائلة في سياق حروب داخل أجنحة المؤسسة العسكرية وتحالفات وتحالفات مضادة مع هذه الحركة أو تلك لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد… و كان الطلب العاجل والأول لدى الشعب و النخبة هو إنهاء حالة التلاشي و الانفلات تلك و تثبيت دفة الحكم بأي ثمن حتى يستعيد البلد أنفاسه و يستقر حاله.
وصل معاوية إلى الحكم نهاية 1984 .. وكان حينئذ هو هو .. على حقيقته و طبيعته؛ ضابط في الجيش منطوي على نفسه و مطلع و عصري و حداثي و صارم و واثق من نفسه.. لم يكن ينتمي لحركة سياسية معينة ولا يعتنق إيديولوجيا بذاتها، ولكنه مع ذلك شاب في 43 من العمر ضليع في القراءة و مثقف و واع و مراقب نبيه للساحة الفكرية والسياسية. لم تباغته السلطة و قد خاض قبلها تجربة كل اللجان العسكرية السابقة و تولى وزارات عديدة و منها الوزارة الأولى. فكان الفرق واضحا بينه وبين سلفه.. الرئيس محمد خونا ولد هيداله بدوي تجري البداوة في دمه، و معاوية مدني حتى النخاع. الفرق بينهما هو الفرق بين الترحال و الانتجاع في صحاري “تيرس” و “آمساگه”، و السكن و الحِلّ بأرض “لكصور” و أودية النخيل.
أول ما بدأ به الرئيس معاوية هو ترسيخ أركان حكمه مستفيدا من فترة السماح التي غالبا ما تمنح لكل قادم جديد. فظهر على الملأ رئيسا تقدميا يتحدث إلى الشعب باللغة العربية لأول مرة في تاريخ البلد رغم مستواه المتواضع في الخطابة، ينتقد “لقْبَيْلاتْ” (القبائل كما سماها في النعمة) و يدعو إلى الديمقراطية والمساواة و محو الأمية و النهوض بالمرأة و يستنهض الشباب و يفتتح معهدا لكتابة و تدريس اللغات الوطنية .. و ما إن دخل عامه الثاني في الحكم حتى بدأ يترجم أقواله إلى أفعال.. قرر إنشاء بلديات لإشراك الشعب في إدارة شأنه و أطلق مسلسلا انتخابيا لغرض تهيئة المجتمع و الإدارة لممارسة الحريات تمهيدا و مدخلا للتعددية السياسية لاحقا. و هكذا بدأ الموريتانيون رحلة التنافس و الحملات و الخيام و بطاقات التصويت و المحاضر و احتساب النتائج في كنف الأمن و السلم و الاستقرار. و كان ذلك في العام 1986 أي 5 سنوات قبل خطاب الرئيس الفرنسي “ميتران” في مؤتمر “لابول”. إن الرئيس معاوية كان ينظر إلى الديمقراطية على أنها صرح يُبنى بالتدرج و على مراحل، لبنة بعد لبنة، و خطوة بعد خطوة، و إنجازًا بعد إنجاز. و هل كان بوسعه أو بوسع غيره “إنزال” ديمقراطية مكتملة الأركان و الصفات و خالية من العيوب دفعة واحدة؟ هكذا بجرة قلم؟ و في الوقت ذاته، بدأ إشراك المرأة و الفئات و الشرائح المهمشة في إدارة الشأن العام مثل “الحراطين” و “الصناع” التقليديين في إطار مسعى جاد “لدمقرطة” المجتمع. و بموازاة ذلك كله، بدأ تنفيذ مشروعات كبرى مثل كهربة المدن (عواصم المقاطعات)، و بناء الطرقات: طريق تجگجة مثلا ، و افتتاح ميناء الصداقة في نواكشوط (1986) و تطوير الزراعة المروية، إلخ،،، أعتقد أن الرئيس معاوية في سنوات حكمه الأولى كان يتقاطع في خطابه و برنامجه مع النخبة الوطنية من كل الحركات: الكادحين و القوميين بشقيهم البعثي والناصري و حركة “الحر”.. و لا أدري هل كان على اتصال بزعامات ذلك الطيف السياسي أم لا. ما يهمني هو أنه استمر على درب “التقدميّة” و “العروبيّة” حتى ترجم رؤيته للبلد و مبادئه التي يؤمن بها في دستور 20-7- 1991 معلنا نهاية الوضع الاستثنائي القائم منذ 10-7-1978.. دستور يقضي بالدين الإسلامي دين للدولة و الشعب، واللغة العربية لغة رسمية، و البولارية و الصونيكية و الولفية لغات وطنية، ويكرس التعددية الحزبية، و يضمن الحريات، إلخ.. هذا هو معاوية…و الآخر كله تفاصيل! تفاصيل من قبيل الاداء و التطبيق و المجتمع و الأحزاب و العقليات و العادات المتجذرة، إلخ…
ويحدثونك عن الدكتاتورية و الفساد و تبذير المال العام و و و … و لكن يبقى السؤال: أين شخص معاوية فكرا و ممارسة من ذلك كله؟ سؤال يحتاج إلى تأمل و تمعن و إنصاف.
“و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا” (صدق الله العظيم).
– يتواصل بإذن الله –."
بقلم الوزير السابق / محمد فال ولد بلال