شهادة نادرة في حق المختار ولد داداه من مرافقه العسكري(ج5)

خميس, 03/12/2020 - 16:14

...يمكن أن يقال إن هذا الوضع يقترب من الإهمال، وأنه كان يجب على كبار المسؤولين الآخرين أن يفرضوا التدابير الأمنية المناسبة عليه، لكن تغيير رأي الرئيس المختار لم يكن بالأمر السهل.

في مجال الصرامة المعنوية والمادية، كان الرئيس المختار علي درجة من التقشف والزهد تقترب من إزدراء المال.

 في هذا المجال، أتذكر أنه في عام 1972 وفي إطار رئاستنا لمنظمة الوحدة الإفريقية، إستخدم طائرة اليوشين 18 التابعة للخطوط الجوية الموريتانية لنقل وفدنا إلى نيروبي لحضور التدشين الرسمي المعرض الأول لعموم إفريقيا الذي نظم في العاصمة الكينية من 23 فبراير إلى 3 مارس 1972. ولما كانت إقامتنا ستستمر عدة أيام، قرر الرئيس إعادة الطائرة حتى لا يتسبب في خسارة كبيرة للشركة التي تستخدم طائرتها على بضعة خطوط خارجية. واجه وفدنا والرئيس نفسه مشكلة في العثور على طائرة تقلع من بلدة "مبالا" التنزانية الصغيرة حيث إضطررنا إلى قضاء يوم أو يومين، في ضيافة الرئيس التانزاني. وهكذا كانت عودتنا إلى أنواكشوط ستتم في ظروف لا تصدق.

 بعد بحث مضن، تمكنا فقط من الحصول على طائرة صغيرة للإيجار، لاتسع سوى سبعة ركاب، وقد إضطر الرئيس، الذي لم يكن جدول أعماله يسمح بالإنتظار، إلى السفر فيها صحبة عقيلته ووزير الخارجية، والأمين العام لرئاسة الجمهورية، وإثنان من الفنانين الذين رافقونا إلى المعرض وأنا.

تضمنت خطة رحلتنا توقفا أولا في برازافيل (الكونغو)،وثانيا في لاغوس (نيجيريا)، وثالثا وأخيرا في فريتاون (سيرا ليون) قبل الوصول إلى أنواكشوط.

 عند وصولنا، حوالي الساعة 12 ظهرًا، فوق العاصمة الكونغولية، وجدنا البلاد ورئيسها "نجوابي" وجيشه يتصدون لمحاولة الإنقلاب الشهيرة التي قام بها الملازم دياوارا.

تلقي الرئيس "نجوابي" الرسالة التي بعثها طيارنا إلى برج المراقبة، يبلغه بوجود الرئيس المختار على متن طائرته وأنه يطلب إذن الهبوط. أخبرنا الرئيس الكونغولي فيما بعد، أنه في البداية إعتقد أنه كمين يهدف إلى إستدراجه إلى المطار لتسهيل القضاء عليه. ورغم حالة التأهب القصوى، قرر في نفس الوقت الذي أذن فيه للطائرة بالهبوط، إرسال وحدة صغيرة من الجيش بقيادة ضابط سام لضمان إستقبالنا وأمننا.

 وهكذا، لم ينضم إلينا الرئيس ماريان نجوابي على المدرج إلا بعد التأكد من أن الأمر ليس خدعة.

مكثنا لتناول طعام الغداء، في حالة الحصار هذه حيث منحني وجودنا إنطباعًا بأننا قد سرينا شيئا ما عن مضيفنا، وكان منزعجًا جدًا عند وصولنا، لكن جيشه إنتهى به الأمر إلى إجهاض محاولة الإنقلاب.

غادرنا برازافيل إلى لاغوس حوالي الساعة 4 مساءً، ووصلنا هذه الأخيرة حوالي الساعة 6 مساءً.

وجدنا أنه قد تم إغلاق مطار العاصمة النيجيرية أمام حركة الطيران الدولية إذ كانت تجري فيه أعمال تجديد ولم يتمكن الطيار من الهبوط إلا بعد مفاوضات طويلة أشار فيها إلى وجود الرئيس على متن الطائرة ونوع طائرته.

ولكن نظرًا لأنه كان يوم أحد ولم يتم إشعار أي شخص بمجيئنا، ولا حتى سفيرنا في لاغوس أحمد ولد أج، فقد إضطررنا إلى الإنتظار أكثر من ساعتين ونصف في المطار قبل أن نرى الرئيس "غوون" يأتي برفقة جميع أعضاء حكومته محاطًا بعدد كبير من العربات المدرعة بالإضافة إلى سائقي الدراجات النارية. وصلنا إلى لاغوس في وقت متأخر وتناولنا العشاء وقضينا الليل في قصر كانت رطوبته، إلى جانب الحرارة مزعجة جدا.

في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، كنا في المطار مع الرئيس النيجيري والوفد المرافق له وقد جاؤوا لتوديع الرئيس المختار ولد داداه.

 أقلعنا بعد نصف ساعة ولكن بعد ثلاثين دقيقة من الرحلة، جاء مساعد الطيار ليبلغني أن مضخة أحد محركاتنا تعطلت وأنه سيتعين علينا العودة إلى لاغوس، على إرتفاع منخفض، لإصلاحها. نقلت المعلومات إلى الرئيس والوزير والأمين العام، لكني لم أخبر فنانينا: سدوم ولد آب وتحانه منت أعليَّ، ابنة أخ المطربة الذائعة الصيت منينه بنت أعليّ.

عدنا بأمان إلى مطار لاغوس لله الحمد حيث إنضم إلينا الرئيس “غوون" ووفده مرة أخرى بسرعة كبيرة حيث كان علينا قضاء ساعتين تناولنا فيهما الغداء قبل وصول طائرة الخطوط الجوية النيجيرية أرسلت من" كانو" في وسط البلاد لتقلنا إلى أنواكشوط.

 عندما نزلنا من طائرتنا الصغيرة، سألني سدوم ولد أب: أليس هذا هو المطار الذي غادرناه سابقًا؟ أجبته: بلى، هذا هو نفسه وقد عدنا إليه لأننا واجهتنا مشكلة صغيرة مع أحد المحركات ويتابع فناننا: آه نعم، ولهذا السبب لاحظت وجود الدخان يتصاعد من النافذة المجاورة لي. في الواقع، كان تبخرًا سببه الفقدان المفاجئ للإرتفاع والفرق الناتج في درجة الحرارة هو ما إعتقد سدوم خطأً أنه دخان.

 عودة إلى تقشف الرئيس المختار، لم يكن حتى منتصف السبعينيات يسافر مصحوبًا بخادم شخصي في رحلاته إلى الخارج. مما جعله يحضر حقيبته بنفسه في معظم الأوقات.

وكما قلت أعلاه، فإن هذا الرفض للحد الأدنى من الخدمة في مجالات أمن وراحة رئيس دولة، والذي يمليه دون شك تواضعه وبساطته، كان من أكثر ما يزعج مرافقيه العسكريين الذين كانوا يرون من حولهم كم كان الرؤساء الآخرون مترفين.

 وفيما يتعلق بعلاقته بالمال، لم يفعل الرئيس المختار قط شيئًا لإمتلاكه، على عكس بعض أقرانه في ذلك الوقت (ستكون المقارنة مع نظرائه اليوم إهانة)، لكنه رفض بشكل منهجي الهبات السخية من بعض نظرائه رؤساء الدول، بما في ذلك الشيكات الكبيرة وصناديق الأوراق المالية المرسلة إليه نقدًا والتي كانت تُدفع دائمًا إلى الخزينة العامة. على سبيل المثال، تم إستخدام شيك باسمه أرسله رئيس غابون" بونغو" لشراء طائرة "كرفل " لأسفار الوفود الرسمية إلى الخارج.

 في نفس الوقت الذي كانت فيه هذه الصرامة تجاه نفسه، كان الرئيس المختار صارمًا للغاية مع وزرائه ومعاونيه الآخرين، الذين كان يعاقب زلاتهم في هذا المجال بشكل منهجي. كم مرة رأيناه يرسل خطابات إشعار رسمي تطالب بتبرير مبالغ مالية لو سمع بها آكلو الميزانية اليوم لماتوا من الضحك لشدة تفاهتها.

 لم يقبل الرئيس المختار أبدًا هدايا من رجال أعمال أجانب. في هذا الصدد، أتذكر حالتين بحجم متفاوت تمامًا، وقد شاهدتهما خلال رحلتين إلى اليابان واليونان على التوالي.

 

الوزير السابق/ الشيخ سيد احمد ولد باب

للرجوع الى الحلقة الماضية ,يرجى الضغط هنــــــــا

       

بحث