بالأمس القريب رحلت أمي مثل ما رحلت أمك اليوم، اشتعلت النار بصدري .. تنهدت، بكيت، لم تنزل الدموع بل طفر الشرر من عيوني، حزنت، تألمت، احترقت، تحسرت على ما فرطت في جنبها، تعذبت لكل لحظة ابتعدت فيها عنها، تمنيت لو أن الوقائع خيال، أو أن الإدراك أضغاث أحلام، أدركت أنني لن أراها مجددا في الحياة الدنيا، تمثلت قدر الرزية، أيقنت أن الذي بقي من عمري من دونها عمر ضائع.
لا شك أنها استعجلت الرحيل، رحلت قبل أوانها، على هذا الخد قبلتني، عند هذه الزاوية علمتني، في هذه الرجل قيدتني، من شر ما خلق عوذتني، بسم الله رقتني، بقصص الأنبياء حنكتني، لجسمي الضعيف غذت، لمرضي عالجت وشفت، لمجدي حفظت وروت، لكل ما تملك أعطت وبذلت، لكل ما أكره تصدت وكفت، لكل ما ينفعني غرست وسقت، في ذاتي جلست وتربعت، لروحي وصلت وتواصلت، من كل وعيي رحلت .. لكنها لم تمت.
كانت القلب الرحيم، العقل الرزين، خلقها الرفق بالمستضعفين والشدة والغلظة على الناكرين، لا تخشى في الله لومة لائم، سريعة الغضب والرضى.
الكريمة العفيفة الجميلة، لا تفرح بما تأتي ولا تحب أن تحمد بما لم تفعل، إذا كان الرخاء بذلت، وإن تكن الشدة لم تتضعضع، وأيامها قسمت بين الشدة والرخاء، فهي حفيدة الشريف الذي يضرب المثل بثرائه وإنفاقه (البخاري الشريف علما) الذي عم إنفاقه البدو والحواضر، بنت البرناوي، بنت سيد عبد الله قطب زمانه، وهي زوجة الثري (حيبللً ولد المامون) المنفق في العسرة والرخاء .. ثم هي جدة الفقراء.
حفظت عنها الأشعار والمدائح، وحكمة أصحاب القرائح، وقصص الملائح، والشوارد والنوادر، والغوادي والسوادر والظراف الخوارد، وابكار العلى الفرائد، حب الصالحين، والبراءة من الفاسدين، وانزال الناس منازلهم، وعدم مد العين إلى ما متع بها الناس، واستحضار الموت والآخرة، واستشعار الابتلاء، والجود بالموجود، وخذل من أنكر عليه أهل الشريعة، وعدم التفاخر وصون اللسان والجنان، عن خطوات الشيطان، وأن الحق يصدم، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
وجهك المتلألئ بأنوار جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم، حديثك الممتلئ بالإيمان، صمتك في العبادة، صدى صوتك، عنفوانك، رحلت أنت، لكنها ظلت في مكانك هنا، لم تمت.. ابتسامتك وأنت على فراش الموت، تستقبلينني بوجهك الوضاح، صوتك الجميل والمهيب وأنت تأمرينني بالكف عن تقبيلك وتقولين بكل إيمان ورباطة جأش (أن من سيموت لا يقبل). ابتسامتك تلك عندما قلت لك أنه لا يستحق التقبيل إلا من سيموت، قلتها وألف سيف يزرع في قلبي، صدى تلك (المرحباااا) عندما تعرفت علي وأنت في الغيبوبة.. لم تمت، ابتسامتك الأخرى والأخيرة عندما لمست شفتاي جبينك وأنت تحتضرين.. لم تمت، ندى جبينك وامتزاج عرقك الطاهر بدموعي وأنت على منصة الغسل.. لم تمت.
أمي .. يا ألف يا أمي .. أحبك جدا، أحب من أحببت، أحب من يحبك، فأنت التي .. وأنت التي .. وأنت التي، رب ارحمها كما ربتني صغيرا، رب شفعها في، رب ابدلها دارا خيرا من دارها وأهلا خيرا من أهلها، فأنا بضعتها، وهي بنت نبيك صلى الله عليه وسلم، وهي ضيفتك، أسألك بكل أسماءك وصفاتك وأسألك بحق ما وفقتني لسؤالك يا لطيف أن تلطف بها. فلسانها كان رطبا بذكرك وشكرك وحمدك، أسألك بحق محبتي لها وحبها لي أن تدخلها برحمتك في عبادك الصالحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أسألك بحق القرءان الكريم الذي كانت تتعهده، أسألك بحق لا إله إلا الله، أسألك بحق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسألك بحق كرمك وجودك، أسألك بحق منك وفضلك أن لا تحول ذنوبي دون استجابة دعائي لها، يا كريم يا منان.
صديقي العزيز .. كلانا بنفس الطريق .. فأمي وأمك فاطمه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (طوبى لعبد وافق ظاهره باطنه)، هكذا أمي وأمك فطوبى لهما، أمك العارفة بأحكام الجليل، المواظبة على قراءة التنزيل، سليلة المجد الأثيل: ابنة حمين، ابنة يعقوب، ابنة الفاضل، ابنة احمد خرشي، ابنة بارك الله ولد مولود، هي الأخرى استعجلت الرحيل.
صديقي العزيز .. لا بأس بالحزن العميق، لأني أعرف انك إن فتشت حيث تريد لن تجد فاطمة بنت حمين، مصابك جلل، ورزيتك كبيرة كبيرة، فلا قلب عليك، ولا عين تكلأك بالدعاء والصدقات، لا أحد ترحم لأجله.
صديقي العزيز .. لقد تعارفنا في بيئة طاهرة، أنا وأنت، اجتمعنا في الله وتفرقنا عليه، يجمعنا اليوم هذا الشاخص الجلل، ليس ثوبا فنخلعه إن ضاق عنا، ولا دار فنرتحل.
أسأل الله بحق تلك العلاقة الطاهرة في سبيله، أن يتقبل أمي (وكلما قلتها تغرورق مقلي) وأمك، وأن يجمعنا بهم بعد عمر طويل في طاعته في جنات عدن، نزلا من عنده بمحض جوده وكرمه وفضله.
اللهم اغفر وارحم فاطمة بنت أحمد ولد البخاري، واغفر وارحم فاطمة بنت محمد ولد حمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه. واغفر وارحم أسلافنا في ديارهم واعتق رقابنا ورقابهم، وابرد مضاجعنا ومضاجعهم، واجعل الجنة ميعاد بيننا وبينهم وجميع المسلمين الذين كانوا أو لم يكونوا كلهم سواء، آمين ما دامت ذوائب يذبل.
[email protected]
محمد ولد أبات ولد الشيخ
العنوان الأصلي الذي اختاره كاتب المقال :
(رسالة إلى صديق فقد أمه)