يروي الطبيب جون رايت، قصتيْ حب من قسم العناية بمرضى كوفيد -19، في مستشفى برادفورد الملكي في المملكة المتحدة، الأولى عن مريض يتزوج من خطيبته قبل ساعات من موته، والأخرى عن قرار الممرضة الصعب بالعيش بعيداً عن طفلها البالغ من العمر أربع سنوات إلى حين انتهاء أزمة الوباء.
ليست هذه بالأيام العادية بل هي أيام تزداد فيها أحاسيس الخوف والوحدة، لكن أيضا يزداد فيها الحب الاستثنائي.
عندما بدأت الممرضة المؤهلة حديثاً، صوفي براينت مايلز، عملها في النوبة الليلية بقسم مرضى كورونا، قيل لها أن الشاب الذي يعاني من عدة مشاكل صحية، بالإضافة إلى عدوى الفيروس غير المؤكد في جناحهم، من غير المتوقع أن يبقى على قيد الحياة، حيث أنه يتلقى الآن علاجاً لتسكين الآلام فقط.
كما كانت برفقته، امرأة مرتدية جميع معدات الوقاية الشخصية اللازمة؛ القفازتين والمئزر وقناع الوجه والقبعة.
إنها خطيبته منذ 15 عاماً، والتي كانت قد أخبرت موظفات المستشفى أنهما لم يقيما حفل زفاف لهما بسبب عدم توفر المال والوقت. لقد عاندتهم الحياة باستمرار.
كان ذلك تعارضا مؤلما بين الحب والموت، لكنه ولّد شيئاً جميلاً جداً منه. فقد اتصلت الممرضة صوفي بقسيس المستشفى جو فيلدر، وسألته عما إذا كان بمقدوره عقد قران الزوجين على الفور.
وتسرد صوفي ما جرى:
قال جو إنه لا يستطيع القيام بذلك الآن بشكل قانوني، لكنه يستطيع أن يفعل شيئاً شبيهاً وقريباً مما يجري عادة في طقوس عقد القران، وتكليلهما؛ فهما قادران على ترديد بعض الجمل وراؤه مثل "قبلت بالزواج منه/منها" ، "ولن يفرقنا أي شيء سوى الموت" وما إلى ذلك.
كان كل شيء قابلا للتحقيق باستثناء أن المكان هو مستشفى بدلاً من كنيسة.
وقد حضر القس، وقمنا بصنع خاتمين من رقائق القصدير، واتصلنا بابنة المريض أيضاً عبر الهاتف لكي تشاهد ذلك بالصوت والصورة.
لقد كانت خدمة رائعة حقاً، وكان جو رائعاً، إذ قام بتوفير دفاتر بأسماء جميع التراتيل والصلوات التي نرددها.
كانت الخطيبة تتفهم تماماً حقيقة أنه يجب علينا جميعاً ارتداء ملابس الحماية كاملة، وكذلك سيتعين على المريض أيضاً ارتداء قناع الوجه، ورغم كل ذلك، كانا متحمسين بشكل مدهش لما كان يحدث.
كان جو على أهبة الاستعداد، بدا وكأنه يتعرق.
قمنا بالتقاط صورة فوتوغرافية لهما بعد ذلك، بناء على رغبتهما. حاولنا جعل الأمر يبدو مثل حفل زفاف حقيقي بقدر المستطاع، وقدمنا لهما الكعكة أيضاً.
لقد كانت الخطيبة تعلم تماماً بأن تلك كانت الساعات الأخيرة من حياة خطيبها، وأعتقد أن ذلك كان آخر شيء شعرا بأنهما قادران على تحقيقه معاً، فعلى الأقل سيكون لديهما هذه الذكرى الأخيرة معاً.
ويضيف القسيس جو: "أظن أننا جميعاً كنا نبكي".
وكان تقرير حالته الصحية يؤكد على أنه لن يعيش حتى الصباح، وأمامه ساعات معدودة، لذلك قمت بأداء خدمة وطقس الاحتفال بالالتزامات التي كانت تتشابه كثيراً مع خدمة الزفاف بالكنيسة.
وبذل المريض قصارى جهده لترديد الكلمات لكنه كان يعاني من صعوبة التنفس. كما بذلت شريكته قصارى جهدها لترديد الكلمات لكنها فعلت ذلك والدموع تنهمر على خديها، وكانت العائلة تبتسم وتبكي في نفس الوقت.
وكل هذا تم والجميع يرتدي معدات الوقاية الشخصية كاملة، كانت ليلة خيالية للغاية، فعلى الأقل، سيموت هذا المريض وهو يعلم أنه ردد كلمات الالتزام هذه لخطيبته، وستعرف عائلته أنه مات بعد أن فعلها.
كما أن شريكته كانت ممتنة جداً لكل ما جرى، فقد كانت فرصة لأن تكلل وتُسمع خطيبها كلمات الالتزام بميثاق الزواج أيضاً.
أردت فقط القيام بدوري في التعامل مع الناس بكرامة، ومساعدتهم على الإحساس بأنهم يحظون بالرعاية والاهتمام والحب. أنا ممتن للغاية لإتاحة هذه الفرصة لي لمساعدتهم على الاحتفال بحبهما بهذه الطريقة.
ومن السابق لأوانه التحدث إلى الزوجة والابن عن شعورهما بما جرى في المستشفى - لم تعقد مراسيم الجنازة بعد - لكنهما وافقا على نشر قصتهما.
والبروفيسور جون رايت، هو طبيب واختصاصي الأمراض المعدية، ورئيس معهد برادفورد للأبحاث الطبية، وخبير في أمراض الكوليرا وفيروس نقص المناعة المكتسب والإيبولا في أفريقيا بجنوب الصحراء الكبرى.
اكتشفت مديرة قسم مرضى كوفيد 19، جيني مارشال حمد، الأمر عندما استيقظت في صباح اليوم التالي.
كان شعورها ممزوجاً بالفرح والأسى، غمرها شعور بالفخر بفريقها وإحساس مرير لموت المريض بعد ساعات فقط.
لكن قصة جيني نفسها مؤثرة جداً.
قبل أربعة أسابيع وقبيل عيد ميلاد ابنها زيدي بفترة قصيرة، أوكلت رعايته إلى والدتها، وهي تعلم أنهما سيفترقان لفترة ما.
وتعتبر والدة جيني ضمن فئة أكثر الناس عرضة لخطر الإصابة بالفيروس، بسبب عمل جيني في رعاية المصابين بكوفيد -19. كما أن عدداً من زميلاتها الممرضات أصبن بالمرض أيضاً. لذلك، لا يمكنها المخاطرة بنقل الفيروس إلى والدتها، وبدلاً من ذلك، سلمت طفلها لها كي يعيش معها، وكرّست حياتها للعمل في المستشفى والقيام بأكثر عدد ساعات ممكنة لرعاية مرضى كوفيد 19.
وتقول: "أشعر أن لدي مسؤولية الوجود هنا وتقديم كل ما بوسعي للفريق في هذا الوقت بالذات".
لكن هذه أقصى تضحية قد تقوم بها أم طفل صغير، وقد أبكاها سؤالي عن متى تتوقع أن تعانق ابنها زيدي مرة أخرى.
وهنا تشرح ما يعنيه البعد الحقيقي بالنسبة لأم وطفل يبلغ من العمر أربع سنوات:
لدينا كل يوم محادثات وعناق وقبلات عبر الانترنت، إلا أن أسوأ كابوس للأم هو عدم قدرتها على تقبيل طفلها قبل النوم ورؤيته فقط من خلال شاشة الهاتف.
لم أره وجها لوجه مدة ثلاثة أسابيع، ولم أعتقد أنه سيتفهم الأمر، كنت أزور أمي وأراقبه من النافذة، دون أن يشعر بوجودي.
بعد ثلاثة أسابيع، طفح بي الكيل ولم أعد قادرة على التحمل، قضيت أوقات طويلة على الهاتف أشرح له عن ضرورة ابتعادنا عن بعضنا البعض بطريقة تناسب فهمه، وكان جيداً ومتفهماً، وحتى الآن، رأيته ثلاث مرات.
وكان يوم عيد ميلاده هو الأصعب على الإطلاق، لأنني لم أستطع حتى لمسه، بل رأيته من خلف باب حديقة المنزل الزجاجي.
كانت أمي قد رسمت بالطباشير خطاً في زاوية وعلمته أنه من غير المسموح تجاوز الخط، كنا نسميها مازحين بالزاوية القذرة.
ولحسن الحظ ، كان يصادف ذلك عيد الفصح، لذا، قمنا بالهرج والمرج وشاهدته كيف كان يبحث عن بيض عيد الفصح، وكان سعيداً جداً بعثوره على كل تلك البيوض المصنوعة من الشوكولاه، لكنه لم يعلم أنه كان يوم عيد ميلاده. سنحتفل بشكل كبير عندما تنتهي هذه الأزمة.
ويشعر زيدي بالراحة والسعادة مع والدتي، لأنه اعتاد بكل الأحوال على البقاء معها أثناء غيابي في العمل.
ويعلم أن والدته تعمل من أجل مساعدة الفقراء، وأنها قد تحمل معها جراثيم تؤذيه لذا عليه البقاء مع جدته للحفاظ على سلامتها وصحتها.
لكن الحاجة إلى ضرورة الحفاظ على مسافة أمر صعب للغاية.
وفي مستشفى برادفورد الملكي، تأقلمنا مع ذروة الموجة الوبائية ونتعامل مع الأمر جيداً.
ولكن لا يعلم أحد منا متى ستنتهي الأزمة.
بي بي سي