قصة مأساوية يرويها الدكتور سيد أحمد لإحدى المريضات

جمعة, 16/02/2024 - 16:40

أمس كان لي موعد مع قطعة من ‘الحياة’ في مستشفى الأنكولوجيا حيث ذهبت لملاقاة زميلي د. جدو في أمر يتعلق بملف إحدى مريضاتي…

 

وصلت حوالي الثانية عشر زوالا، و كانت أمامي بقية طابور بدأ منذ ساعات الصباح الأولى. و بقية هذا الطابور إمرأة واحدة فقط…

لمست في وجهها بسرعة، طيبة جعلتني أحترمها تلقائيا و احترم طابورها… فجزمت في نفسي أن لا أدخل قبلها حتى و إن كانت حاجتي مختلفة تماما عن حاجتها و ذلك رغم إلحاح قامت به لما لاحظت ذلك… لابد أنها فهمت أنني زميل لطبيبها و سيتأكد لي ذلك لاحقا…

 

ثم دخلنا في حديث أهل الطابور العفوي… حكت لي بطيبة قلب و بصفاء نية، عن مرضها العضال و عن وقوف الأطباء معها في محنتها و أن ذلك الوقوف النبيل ولد لهم مكانة كبيرة في نفسها… ذكرت منهم بالخصوص إثنين : أحدهما هو الجراح الذي اقتلع المرض من أحشائها في أحد مستشفيات العاصمة… ذكرته بالإسم دون الوسم. فهمت أنها فعلت ذلك لتشعرني بمكانته الدافئة، المتوغلة بعيدا في قلبها و الثاني طبعا هو صديقي الذي نقف نحن الإثنان الآن، أمام مكتبه و ذلك لما يبذله من جهد من أجل مساعدتها على التغلب على ما عجزت الجراحة في اقتلاعه من جسمها المنهك…

– “هاذين الشخصين الطيبين، أُشعر بمجرد رؤيتهما لوحدها أن مرضي سيهزم…”، قالت ذلك و السرور البادي على وجهها و هي تقوله يؤكد صدقها فيه…

أغبطتهما حقيقة على تلك المشاعر الطاهرة، وشعرت و هي تقول ذلك، و كأنهما بعيدا، ممسكان بالزناد، في مواقع دفاعية في آخر جبهات حياتنا بأسرها.

كما أنني أيضا، و أنا أصغي إليها في كلام صادق آخر، توضح فيه كفاحها برباطة الجأش و حسن السريرة، في معركة ضد خصم فتاك، قد تكون لا سمح الله، في نهاية المطاف هي الخاسرة فيها، شعرت بي صاغرا جدا أمامها…

 

ثم فتح الباب و دخلنا معا بأمر من صديقي الكريم…

فكان لي أن أكون شاهدا على معاينة فيها من صفاء القلوب ما لم أره في أي مستشفى آخر… و قد لامست فعلا، مداعباتهما شغاف قلبي الحزين…

و لما أومأت للسيدة في محاولة يائسة في المشاركة في جوهما النبيل، بأن أخبر زميلي بكونها جاءت منذ الصباح الباكر دون حس يذكر، أشارت لي بأن لا أفعل ! معللة ذلك، بكونها لا تريد إتعاب طبيبها بهم قد يعكر صفاء قلبه في وجهها…

ثم فتح الطبيب الملف و شرعا في الجد…

 

بعد ذلك بقليل دخل علينا شاب من أجمل ما رأيت في حياتي و لا أعتقدني مبالغا في ذلك : محيّى و سعادة و بريقا في العينين…

و كان أيضا، ذلك الشاب في عجلة من أمره… كمن يريد اعتذارا ما… لعله، تأخره عن أمه التي لم يظهر عليها أي ضجر من ذلك.

على كل، لم تتردد هذه الأم الطيبة في تقديمه لي بكل عفوية دون إشراك طبيبها في ذلك التقديم – طبعا لأنه يعرف كل شيء عنها –

– “هذا هو كل ما أملك من ذرية و كان قد تأخر ليأتي بفحص أجراه لنفسه اليوم”

ثم طلبت مني أن ألقي نظرة على الفحص في انتظار انتهاء طبيبها من تجميع دوائها المتشعب، و يا ليتني لم ألق تلك النظرة :

الشاب أقرب من أمه إلى المآل المحتوم….!

 

خرجت مودعا، إلى شارع كثير العنفوان و السخط و أبى قلبي إلا أن يبقى هناك مع الشاب و الأم والزميل…

 

جمعة مباركة

 

د. سيد احمد ولد باب

  

        

بحث