رفض غزواني استضافة القوات الفرنسية.. الدوافع والمغزى

أحد, 15/10/2023 - 17:54

ذهب بعض المعلقين على مقابلة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى أنه جامل فرنسا في وقت تتلقى فيه الصفعات في جنوب الصحراء، وتتهاوى صورتها في قلوب ملايين الأفارقة على طول القارة وعرضها. يستدل هؤلاء بإجابة للرئيس غزواني خلال مقابلة مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية عن وجود مستقبل لفرنسا في القارة الإفريقية، بناء على القاعدة التي تقول إن من له تاريخ في مكان، فله بالضرورة مستقبل فيه.

 

والواضح أن الرئيس الموريتاني المنشغل بموجة الأزمات التي تجتاح محيط بلده الإقليمي، والتي لا يمر يوم دون أن تسقط منها شظية حارقة على واحد من أطراف خريطة الموريتانيا الواسعة. هذه محاولة، لقراءة الموقف الفعلي لموريتانيا، ومغزى تصريح الرئيس الذي نظر إليه على أنه مجاملة لفرنسا، دون انسياق وراء الدعاية المضادة للرجل ونظام حكمه، ودون الانخراط في دعاية مضادة داعمة.

 

بحر الأزمات 

تغني المشاهدات اليومية عن الاستطراد في تعداد الأزمات التي تحيط بموريتانيا، وتكفي الإشارة إلى وضعية تحالف دول الساحل الخمس، الذي حولته الانقلابات إلى تحالف لدولة واحدة هي موريتانيا، ويمكن أن تنضاف لها تجوزا اتشاد، لأن الدول الثلاث الأخرى حدثت فيها تغييرات جاءت بقيادات لا تؤمن بالرؤية التي قام عليها ائتلاف مجموعة دول الساحل الخمس. 

في أربع من الدول الخمس المشكلة لمنطقة الساحل وقعت تغييرات غير دستورية؛ ثلاثة منها انقلابات عسكرية صريحة تبدلت معها الأحلاف الاستراتيجية التي كانت فرنسا تشكل عمودها الفقري، واتخذت الأنظمة العسكرية الثلاثة من الدعاية ضد فرنسا "شعارا تجميعيا" يتناغم بعض المشاعر السلبية التي تحتفظ بها الذاكرة في المنطقة لمستعمرها السابق.

 

وتواجه الديمقراطية السنغالية اختبارا صعبا مع اقتراب نهاية المأمورية الثانية للرئيس ماكي صال، والزخم الشعبي الذي تحظى به معارضته، وموقع الدعاية ضد فرنسا في الصراع السياسي المحتدم في السنغال. هذا علاوة على انقلابات عسكرية حدثت بالفعل في دول إفريقية غير بعيدة، وأخرى قد لا تكون بعيدة الاحتمال.

 

وفي الشمال يتعقد المشكل المرتبط بقضية الصحراء الغربية، وتذهب الأزمة بين الجزائر والرباط صعدا، في وقت غيرت فيه المغرب قاعدتها الدبلوماسية لتجعل من الموقف من الصحراء محددا لعلاقتها مع الدول الأخرى، وفي هذا السياق تأزمت العلاقة مع إسبانيا، وألمانيا، ولا يستبعد أن تتوجه موجة "التحريض الإعلامي" لإعمال القاعدة مع موريتانيا صوب نواكشوط، في وقت يذهب فيه التعاون الاقتصادي مع الجزائر شوطا بعيدا، يعبر عنه افتتاح المعبر الحدودي وانتظام اللجنة الوزارية المشتركة.

 

 

 

الرفض الصريح "المغلف"

في هذا الجو جاء صحفي، أو صحفية، من فرنسا إلى القصر الرئاسي في موريتانيا وفي ذهنه سؤال مؤرق، تسأله كل الدوائر المهتمة بالملف الإفريقي في فرنسا، وتسأله معها القوى الدولية، والمهتمون عموما بمنطق تتزايد مركزيتها في أمن الطاقة العالمي، وتكاد تكون بؤرة اهتمام وحيدة في ملف الهجرة من ضفة المتوسط الجنوبية.

 

دخل الصحفي القر الرمادي، وبين يديه حزمة أسئلة، لكنها جميعا تدور حول واحد هو: من هي الدولة التي ستستضيف القوات الفرنسية المزمع سحبها من النيجر في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة؟ وهو سؤال يخفي السؤال الأكبر: من هي الدولة التي ستكون معقل الوجود الفرنسي في المنطقة؟ وفي ظل شيء هشاشة الوضع في تشاد، والظروف السياسية في النيجر، ومالي، وبوركينافاسو، تكون موريتانيا هي المفضل، لعوامل عديدة، لاستضافة القوات الفرنسية.

فكيف أجاب الرئيس غزواني عن هذا السؤال الشرك؟ كانت الإجابة القاطعة بالرفض عن السؤال المباشر، وقد استخدم الرئيس الموريتاني أسلوبا لبقا؛ حين اعتبر أن بلاده "ليست الأفضل لاستقبال القوات الفرنسية الموجودة في النيجر". يعني هذا باللغة الدبلوماسية: لن نستقبل هذه القوات، ولتبحثوا لها عن بلد يستضيفها غيرنا. 

 

هذه الإجابة غير المواربة، تعد حاسمة، فهو لم يذكر شيئا عن طرح الطلب، ولم يعد بدراسة مثل هذا الخيار، بل جزم بصريح القول إن ذلك لن يكون، وانتهى. في اعتقادي أن هذه إجابة الرئيس غزواني المباشرة على السؤال المباشر، ولكن المقابلة في جميع أسئلتها وإجاباتها، وحتى في اختيار منبرها، تعد إجابة متكاملة عن هذا السؤال. 

 

من هنا يكون الحديث الإيجابي عن فرنسا، وعن مستقبل علاقتها بالمنطقة، وعن وضع الحملات الدعائية ضدها في سياق موجة الشعبوية التي تجتاح العالم، من باب الغلاف الدبلوماسي للرفض الصريح لاستقبال القوات، كما تقتضي البصيرة الدبلوماسية مستوى من اللطف في التعبير، خاصة حين يتعلق الأمر بحليف جريح يبحث عن مواساة ولو لفظية.

 

وتعد هذه اللحظات مناسبة لإعطاء إشارات دالة في قراءة الأحداث والظواهر؛ فمنطوق كلام الرئيس الموريتاني يشير إلى أن الموجة الحالية من الخطاب المعادي لفرنسا في العواصم الثلاث ليس دافعها الوحيد بغض فرنسا، أو تاريخ علاقتها بالمنطقة، بل هي خطاب سياسي، يحاول صاغته الاستفادة من موجة شعبية لتسويغ التحالف مع قوى أخرى، لن يكون بالضرورة حرصها على مصالح شعوب القارة أو دولها أكثر من حرص الساسة الفرنسيين، لكنها تشكل بعض التغيير الظاهري، وقد تمكن بعض دول القارة من تحرير مساحات تحرك كانت خاضعة لفرنسا بحكم الخبرة، والتاريخ الاحتلالي.

الموقف الموريتاني المركب

تتبنى موريتانيا منذ مجيء الرئيس غزواني إلى السلطة عام ٢٠١٩ مقاربة محافظة في السياسة الخارجية؛ تتجنب الانخراط في الصراعات المحتدمة، مع الاحتفاظ بمساحة تحرك حرة نسبيا في صراعات المحاور التي تتقاسم المنطقة. فهي منخرطة من موقع القيادة في جهود تحالف دول الساحل، وتطور شراكتها مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" وهي اسم ثابت في كل المنتديات الدولية المتعلقة بمحاربة الإرهاب والهجرة، وأمن الطاقة. وفي ذات الوقت تطور علاقاتها مع الصين، وروسيا.

 

لكنها في المقابل رفضت أن تكون جزءا من الضغط السلبي على النظام الحاكم في مالي، أو تنخرط في الحصار الذي فرضته دول الإيكواس على مالي، رغم العلاقة العميقة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.

 

وفي هذا السياق يتنزل موقف موريتانيا الرافض لاستضافة الجنود الفرنسيين على أراضيها، وهذا الرفض يعتبر واحدا من ثوابت استراتيجية موريتانيا لمواجهة الإرهاب، وهي التي صيغت أيام وجود الرئيس الحالي في قيادة أركان الجيوش، وليس من المتوقع أن يغيرها بعد أن أمسك قرار السياسة إلى جانب قرار الحرب.

الوجود الأجنبي العسكري ذو ضرائب ضخمة، لا يبدو أن نواكشوط في وارد دفعها؛ فهو يجر معه الاختراق الأمني المباشر من طرف القوة المستضافة، كما أنه يأتي بأعداء تلك القوة فيتحول البلد إلى ساحة معركة ليست حربها ضرورة.

 

هذا علاوة على أن استضافة فرنسا بالذات في هذه الحقبة يعد مجازفة سياسية في ظل انتشار الخطاب المناهض لها في كثير من البلدان الإفريقية، يضاف إليه أنه ليس لدى فرنسا الكثير لتقدمه لمن يستضيفها، كما ليس لديها الكثير لتضر به من يرفض استقبال قواتها المطرودة من النيجر، وحتى لو كان، فهو أخف من ضريبة استضافتها بالمنطق لبراغماتي المباشر.

 

لكن هذا الموقف ليس رفضا لفرنسا، ولا انخراطا في موجة التحريض ضد علاقاتها في المنطقة، فهي شريك اقتصادي وعسكري لأغلب دول المنطقة، وارتباطها التاريخي بإفريقيا يجعلها شريكا محتملا في أي مشروع جدي، خاصة في النواحي العسكرية والأمنية.

 

مركز الصحراء

       

بحث